الرأسمالية هى المشكلة.. بهذه العبارة استهل السيناتور الأمريكى الديمقراطى بيرنى ساندرز (83 عاما) أحدث كتبه الصادر مطلع هذا العام: «جيد أن تكون غاضبا من الرأسمالية» ويحتل ساندرز مكانة كبيرة فى الحياة السياسية الأمريكية ليس بسبب ترشحه فى انتخابات الحزب الديمقراطى ليكون المرشح الرسمى للرئاسة الأمريكية بانتخابات 2016 و2020 وحلوله ثانيا فى المرتين. وإنما لأنه يمثل ما بات يُعرف بالتيار التقدمى فى الحزب وبالحياة السياسية الأمريكية عموما.
دأب ساندرز على مدى العقدين الأول والثانى من الألفية الثالثة على دق جرس الخطر إلى ما آل إليه المجتمع الأمريكى من انقسام على المستويين الطبقى والثقافي. وما بلغته نخبة المجمع الصناعى العسكرى التكنولوجى من شراسة، حيث ضاعفت من حربها الطبقية التاريخية ضد الطبقات الوسطى والعمالية. إضافة للتداعيات الكارثية لاقتصاد الفقاعات وانهيار وول ستريت وهو ما جسدته السينما من خلال أفلام بديعة مثل: «ذئب وول ستريت 2014، والعجز الكبير 2015، ووحش المال 2016..»، فى هذا الإطار بلور ساندرز ما أطلقت عليه فى دراستنا: قصة اليسار الأمريكي: مانيفستو اليسار الأمريكى الجديد؛ الذى نورد عناصره بحسب ما ورد فى كتب ساندرز التى ألفها منفردا أو مع آخرين أو كتبت عن التيار التقدمى/الراديكالى فى أولا: هزيمة الأوليجاركية الطبقة المالية الحاكمة وإنهاء سيطرتها على الحياة الديمقراطية. ثانيا: مقاومة انحدار الطبقة الوسطى الأمريكية.ثالثا: إنهاء اقتصاد اللامساواة الذى يباعد بين القلة الثروية والأغلبية الفقيرة. واعتماد اقتصاد يقوم على العدالة ويقيم الفقير من فقره. رابعا: تبنى مبدأ الرعاية الصحية للجميع. خامسا: دعم مبدأ التعليم العالى للجميع. سادسا: مواجهة التغيرات المناخية المدمرة للبيئة والمهددة لحياة جميع المواطنين دون استثناء. سابعا: اصلاح منظومة العدالة الجنائية...ثامنا: اصلاح القوانين واللوائح المنظمة للهجرة إلى أمريكا. تاسعا: حق الأكثر هشاشة بالحماية الاجتماعية فى الولايات المتحدة. عاشرا: كشف دور الإعلام الذى يقوم بالتخديم على أصحاب الثروة وإلى أى مدى تهدد رسائله الإعلامية وما تضمنه من أفكار الديمقراطية الأمريكية.
نجحت عناصر المانيفستو التى طرحها ساندرز فى جمع كتلة اجتماعية واسعة قوامها ــ بالأساس ــ شباب المدن من الطبقة الوسطى من خارج الحزب الديمقراطي. وتحديدا الشباب الغاضب من المؤسسات القائمة والحياة الحزبية التى تحركها نخبة الـ 1%.حيث تؤمن هذه القاعدة الاجتماعية الشابة، وفق دراسة حديثة قام بها معهد هارفارد للسياسات، بأن: رأسمالية السوق قد بلغت حالة تاريخية من الإخفاق المادى ودرجة من عدم الوفاء بالوعود أدت إلى اللامساواة والفقر غير المسبوقين فى التاريخ. ما يفرض ضرورة البحث عن نظام اقتصادى أكثر عدلا... ويثمن الفيلسوف العالمى الجماهيرى السلوفينى سلافوى جيجيك (74) فى كتابه: الفوضى الكلية (2021) ما يمثله ساندرز وكتلته الاجتماعية من: «نهوض جديد راديكالي» فى الولايات المتحدة الأمريكية...راديكالية تواجه: أولا: «الديمقراطيون التقليديون»، وثانيا: «الجمهوريون المحافظون»، وثالثا: الجناح الترامبى من القوميين والشعبويين الجمهوريين، ورابعا: الاحتكارية الحزبية الثنائية التاريخية: الديمقراطية والجمهورية التى تحركها النخبة. لا تدور هذه المواجهة حول الانتخابات وآلياتها أو التنافس على الحكم وإنما حول تجديد الولايات المتحدة الامريكية أو ما يطلق عليه ساندرز: عملية التحول الكبرى لأمريكا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا...وهو ما يرسم، ساندرز، ملامحها فى كتابه الأخير: جيد أن تكون غاضبا من الرأسمالية... ففى مقدمة الكتاب، يقدم تحليلا للواقع الأمريكى الراهن، ينطلق من أن القوة الحاكمة فى الولايات المتحدة التى تملكه اقتصاديا وسياسيا وإعلاميا هي: الأوليجاركية The Oligarchs Own America؛ إنها القلة الثروية أو طبقة الواحد فى المائة التى تعمل بأعلى كفاءة ممكنة ــ بتوظيف العملية الديمقراطية وتوجيه الإعلام ــ لمضاعفة ثروتها. وليس مصادفة أنه فى الوقت الذى انشغل فيه النظام الأوليجاركى الحاكم بمراكمة الثروة انحدرت الطبقة الوسطى وتدهورت الطبقة العاملة فى الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن، يقول ساندرز: بينما الأوليجاركية مستغرقة بشكل محموم فى تلبية مصالحها لا تلقى بالا للتراجع الذى أصاب كلا من الطبقتين الوسطى والعمالية. والأهم لم تنتبه للتشققات التى طالت النظام القائم ونخبته الحاكمة، إضافة إلى أن ملايين من الأمريكيين قد باتوا على درجة وعى كبيرة فى إدراك ما حل بمجتمعاتهم وأخذوا يبحثون عن المتسبب فى تردى الأوضاع ومن ثم المطالبة بتغيير الأوضاع. وفى هذا الإطار يذكر ساندرز بأمرين هما: أولا: حملته الانتخابية من أجل الفوز بترشيح الحزب الديمقراطى لخوض انتخابات الرئاسة الأمريكية فى 2016 حيث كسب تسميته من 22 ولاية وما جملته 13 مليون صوتا. ثانيا: تكرار ما سبق فى حملة 2020، خاصة على مستوى التصويت القاعدى فى أوساط الشباب الأمريكى من جيلى: الألفية، و زد، و ألفا، من كل الألوان العرقية…الأمريكيين: الأصليين، والسود، والبيض، واللاتين، والآسيويين،...
ومع تزايد رقعة الالتفاف القاعدى حول التوجه الراديكالى الجديد الذى يمثله ساندرز، وإليزابيث وارين، وغيرهما اكتشف النظام الأوليجاركى الحاكم إلى أى مدى انكشف النموذج الرأسمالى الذى تقدمه وإلى أى حد هش بسبب اللامساواة المتنامية بين مواطنى الطبقات الأمريكية، ما يهدد بهزيمة العقد الاجتماعى والسياسى التاريخى حول حلم الرخاء الأمريكى للجميع...وانطلاقا من المقدمة يبدأ ساندرز فى طرح مجموعة من الأفكار تمثل برنامج التيار الراديكالى لتغيير أمريكا.
لمزيد من مقالات سمير مرقص رابط دائم: