شاع اعتقادُ لسنواتٍ طويلة فى أن التطور المتسارع فى تكنولوجيا الاتصال الرقمى هو ما أدى إلى تراجع الإقبال على الكتاب الورقى وتناقص مبيعاته. وقدم هذا الاعتقادُ تفسيرًا لانخفاض توزيع الصحف الورقية فى كثيرٍ من بلدان العالم أيضًا. وبُنى هذا الاعتقادُ على أن المهتمين بقراءة الكتب قلَّلوا الوقت الذى يُخصَّصونه لها منذ دخول عصر التكنولوجيا الرقمية، وأن أبناء الأجيال الجديدة يندرُ بينهم من يهتمُ بقراءة الكتب. وأظهرت دراساتُ عدة صحةُ هذا الاعتقاد. كما درس عددُ من الكُتاَّب مسألة تراجع الإقبال على الكتب، ومن أشهرهم الأمريكى نيكولاس كار فى كتابه الصادر عام 2010 تحت عنوان “السطحيون- ماذا تفعل الإنترنت بأدمغتنا؟)، والذى ترجمته وفاء يوسف ونُشر بالعربية عام 2021 عن دار سبعة للنشر والتوزيع فى إطار مبادرة ترجم السعودية.
وتتوافرُ شواهدُ لا حصر لها على صحة هذا الربط بين تراجع قراءة الكتب الورقية والتوسع فى التقنيات الرقمية. ولا يُقللُ صحته أن عددًا غير معروف من مرتادى شبكة الإنترنت يقرأون بعض الكتب بواسطتها. ومع ذلك، يبدو هذا التفسير لتراجع القراءة الورقية ناقصًا، خاصةً حين يتعلقُ الأمر بمن قل عددُ الكتب التى كانوا يقرأونها. فارتفاعُ أسعار الكتب الورقية عاملُ آخر يُكملُ تفسير هذا التراجع فى اقتنائها وقراءتها، لكنه لم يلق اهتمامًا كافيًا إلا فى الأشهر الأخيرة، بعد أن أصاب جنونُ شديدُ أسعار الورق، فارتفعت عدة مرات، وبلغت مستوى بات يُهدد صناعة النشر التى استطاعت التكيف فى الأغلب الأعم مع موجات ارتفاعٍ سابقةٍ أقل جنونًا.
والمتوقعُ أن يزداد هذا الارتفاعُ الراهن بمقدار ما تستمرُ أسبابه. فإلى جانب مشاكل سلاسل الإمداد، تزداد الأسبابُ التى يمكنُ أن نسميها بنيويةً لارتباطها ببنية صناعة النشر مثل القيود البيئية على قطع خشب الأشجار، وارتفاع أسعار الصمغ، وألياف السيليولوز، والمواد الكيميائية التى تدخل فى صناعة الورق، فضلاً عن الأحبار اللازمة لعملية الطباعة.
ولهذا ارتفعت أسعارُ الكتب فى الأشهر الأخيرة، التى تفاقمت فيها أزمةُ الورق، بمعدلاتٍ تفوقُ ازديادها فى السنوات العشر السابقة التى توسع فيها الإقبالُ على التكنولوجيا الرقمية.
لمزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد رابط دائم: