تناولنا فى مقالاتنا الثلاثة الأخيرة النقاش الكثيف والعميق الدائر على المستويات الأكاديمية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية حول مستقبل دولة الرفاه فى ضوء التحديات الثقيلة التى تواجهها على المستويين الداخلى والخارجى للدول على اختلاف مكانتها التنموية. وهذا الأسبوع عاد المنتدى الاقتصادى العالمى «دافوس» للانعقاد فى موعده الطبيعى منذ تأسيسه فى 1971 فى الثلث الأخير من يناير من كل عام والذى أوقفته الجائحة ما اضطرهم من تأجيله وعقده مرة عبر الزووم ومرة أخرى فى الصيف. عادت نخبة العولمة للالتئام تحت عنوان: التعاون فى عالم مُشَظِيَ، وتشير المتابعة الدقيقة لفعاليات اللقاء إلى أن هناك قدرا من المسئولية قد سادت كثيرا من المشاركين حيال ما آلت إليه الأوضاع فى دول الكوكب وجعلت العالم يعيش، ما يمكن أن نطلق عليه، زمن الأزمات المركبة. وهى مسئولية تدعو الجميع إلى اتخاذ ما ينبغى أن يتخذ فورا لأن ما جرى لا يصح ــ أخلاقيا وتاريخيا ــ أن تتحمله الأجيال القادمة. فهناك الكثير من الإجراءات الواجبة التنفيذ يتم التغاضى عنها منذ عقود لوقف الأخطار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التى تتهدد الكوكب. وفيما أتصور من خلاصة المتابعة، أن هناك توافقا عاما بين نخبة العولمة من: اقتصاديين، وسياسيين حاليين وسابقين، وصناعيين، واقتصاديين، ونشطاء مدنيين يمثلون مختلف المجالات، وأصحاب مال وأعمال، ومديرى شركات عملاقة متعددة الجنسية، وتقنيين جدد، وعاملين بالبورصات وأسواق المال،...،إلخ، على أربع حقائق/إخفاقات كبرى هى:
الحقيقة الأولى/الإخفاق الأول: هشاشة النظم الاجتماعية التى تبلورت عقب الحرب العالمية الثانية وعدم قدرة دول العالم ــ على اختلاف موقعها/خيارها التنموى ــــ على مدى أكثر من 75 سنة فى تلبية احتياجات المواطنين. أو بلغة أخرى، الإخفاق التاريخى لدولة الرفاه بتجلياتها الأربعة التى أشرنا إليها فى مقالات الأسابيع الثلاثة الماضية.
الحقيقة الثانية/ الإخفاق الثانى: يشير إلى التنامى التاريخى غير المسبوق للفقر نوعا وكما. ويؤكد ما سبق التقرير الذى دأبت مؤسسة أوكسفام العالمية على إصداره سنويا بالتزامن مع عقد منتدى دافوس والذى صدر (فى 16 يناير 2023 قبل أيام من دافوس) تحت عنوان: البقاء للأغنى، حيث أشارت إلى تنامى الثروة بالنسبة للقلة على حساب الأغلبية من المواطنين. ونكتفى بذكر مثل واحد على ذلك يذكر التقرير أنه: مقابل كل 100 دولار من الثروة التى تراكمت فى السنوات العشر الماضية، ذهب 40.54 دولار إلى أغنى 1٪ و70 سنتا إلى أفقر 50٪ من البشر، ومن ثم اكتسب أعلى 1٪ من البشر ثروة تفوق بنحو 74 ضعف ما كسبه نصف البشرية الأفقر فى السنوات العشر الماضى. ما يمثل إخفاقا فى تحقيق الرفاه والرعاية والتنمية لمواطنى الكوكب.
الحقيقة الثالثة/الإخفاق الثالث: يتعلق بما روجته الليبرالية الجديدة عبر المؤسسات المالية الدولية بأن: غنى الأغنياء سيصفى تلقائيا وتدريجيا ظاهرة الفقر لأن الغنى المتزايد يعنى تزايد الاستثمار وخلق فرص عمل باستمرار ومن ثم تنتعش الأسواق وهذا محض وهم كبير...وأن البطالة ستتراجع وغير القادرين على العمل من المرضى والكسالى والمعوقين فيمكن تلبية احتياجاتهم من خلال الأنشطة الخيرية Charity، أى بواسطة التبرع ــ الاختيارى بطبيعة الحال ــ من قبل الأغنياء خصوصا والقادرين عموما وهذا ايضا كان أكذوبة كبرى. والخلاصة أن ما عُرف ــ اقتصاديا ــ بسياسة تساقط الثمار أى أن يستفيد الجميع ــ خاصة من هم فى أدنى السلم الاجتماعى من عوائد اقتصاد السوق هو فى حقيقته أسطورة عاشها العالم على مدى خمسة عقود حيث ــ كما توافق الكثيرون من الحاضرين فى دافوس 2023 ــ كانت الثروة تتدفق إلى الأعلى فقط...
الحقيقة الرابعة/ الإخفاق الرابع: يؤكد عدم قدرة المنظومة الدولية على تفعيل العمل المشترك بين دول المنظومة الدولية، وضمان تنفيذ التعهدات الدولية خاصة من قبل الدول الكبار وحماية المهمشين دولا ومواطنين فى مواجهة: الآثار السلبية للخيار الاقتصادى الذى ساد لعقود، والأوبئة والأمراض المعدية، والانهيار المناخى، والتدهور البيئى، ونقص الموارد الطبيعية، والصراع الدموى حول الطاقة، وتراجع التنوع البيولوجى، وعدم الاستقرار الجيوسياسى فى كثير من بقاع العالم، الاضطرابات المجتمعية بفعل الفقر والبطالة والتضخم، الأزمة الاقتصادية/المالية المزمنة بموجاتها المتعاقبة منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضى والمتفاقمة باطراد بسبب الجائحة والتنافس الإمبريالى حول الموارد، الأمن السيبرانى،...،إلخ.
كانت الحقائق/ الإخفاقات السابقة حاضرة بقوة ووضوح فى المساهمات التى ألقيت والنقاشات التى دارت حولها ما شجع البعض لطرح سؤال محورى مفاده: هل ماتت العولمة؟، أو على أقل تقدير هل شارفت العولمة على النهاية؟...ويبرر المتسائلون مشروعية سؤالهم بأن كل ما كانت تبشر به العولمة خاصة فى المجال الاقتصادى لم يتحقق، بل على النقيض تماما اتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء بين الدول وبين مواطنى الدولة الواحدة.
توافق الحاضرون، إذن، على إخفاقات العولمة بنظامها الاقتصادى ومنظومتها الدولية كذلك دولة الرفاه بتطبيقاتها وأنظمتها التأمينية واستثماراتها الخدمية المختلفة... ويبقى السؤال هل قدم الحاضرون ما يمكن من مواجهة واقع الإخفاقات والنهايات...نجيب فى مقالنا القادم...
لمزيد من مقالات سمير مرقص رابط دائم: