تعانى مصر فجوة مائية عميقة تجبرها على الحفاظ على كل قطرة مياه وإعادة استخدام كل نوعيات المياه الهامشية. وطبقا لتقدير منظمة المياه التابعة للأمم المتحدة تحدد احتياجات الفرد بمالا يقل عن ألف متر مكعب سنويا، ولأن عدد سكان مصر يبلغ 104 ملايين نسمة وبالتالى ينبغى أن تكون مواردنا المائية 104 مليارات م3 سنويا ولكنها واقعيا لا تتجاوز 62 مليار م3 فقط بما يعنى عجزا مائيا يبلغ 42 مليار م3. ولتقليل هذا العجز نقوم بإعادة استخدام نحو 20 مليار م3من مياه المخلفات من صرف زراعى وصناعى وصحى معالج وغير معالج لتخفيض العجز المائى إلى 22 مليار م3.
تمتد شبكة الترع فى مصر إلى مايقرب من 35 ألف كم، أُنشىء أغلبها منذ عهد الوالى محمد على ويغلب عليها القوام الطينى والطميى ذات المسام العديدة والقليل منها فى أراضى الاستصلاح الرملية وكلاهما يعمل على فقدان كميات ليست بالقليلة من المياه العذبة. ويتكون نظام توصيل المياه فى مصر من مجرى نهر النيل يتفرع منه الرياحات التى تتواجد فى الدلتا فقط وهى الرياح التوفيقى والرياح البحيرى، والبعض يطلق أيضا على ترعة ناصر أيضا لقب الرياح الناصري. ومن الرياحات ومن النهر نفسه تخرج الترع الرئيسية ومنها تخرج الترع الفرعية وعادة ماتكون على مسافات 15 كم ويعود الفائض من مياهها إلى الترع الرئيسية أو المصارف العمومية التى يعاد استخدام مياهها فى الري. كل النظم السابقة هى نظم حاملة للمياه فقط ولا يسمح منها بالرى ولا يمكن واقعيا وعلميا تبطينها نظرا لضخامة قطاعها المائي. ومن الترع الفرعية تخرج ترع التوزيع المعروفة باسم المساقى وعادة ماتكون على مسافات من 2-3 كم ويسمح بالرى منها مباشرة وهنا ينتهى دور وزارة الرى ليبدأ دور المزارعين ووزارة الزراعة فى المراوى التى تأخذ من المساقى مياهها وهى أصغر أنواع الترع وتتواجد داخل الحقول. هذا الكم الكبير والمتنوع من الترع والذى يغطى كل أراضى مصر من السد العالى وحتى آخر أراضى الدلتا، يوضح كم المياه التى نفقدها عبر مسام التربة وكذا بالتبخير فى مناخنا الحار الجاف وأيضا عبر الرياح وتيارات الهواء، بما قدره بحث لوزارة الرى نُشر فى موقع الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء عام 2010 بأننا نفقد نحو 19 مليار متر مكعب من مختلف المجارى المائية السابقة. وهذا الرقم يتماشى مع تقديرات المنظمة الدولية للمياه بأن الترع الموصلة للمياه تفقد مابين 25 و35% من مياهها وأن الفقد داخل الحقول عادة يكون فى حدود 25%.
من هنا كانت البداية لتقليل فقدان المياه المصرية المحدودة فى شبكات التوصيل والنقل والرى عن طريق تبطين الترع أو تحويل بعضها إلى مواسير التى تسمح بذلك وأغلبها من ترع التوزيع والترع الفرعية، حيث بالطبع لا يمكن تبطين ضفاف وقيعان نهر النيل ولا الرياحات ولا الجنابيات ولا الترع الرئيسية وبعض الترع الفرعية. يعمل هذا التبطين على سد المسام التى تنشع منها المياه سواء على الأراضى المجاورة فتضعفها وتضرها أو إلى المياه الجوفية فترفع من مستواها لتضر جذور النباتات، كما يعمل التبطين على سرعة توصيل المياه للمزارعين بعد سد مسام جوانب وقيعان الترع والتى تتشرب أولا بالمياه قبل أن تسمح بالفائض منها بالمرور عبر الترعة، ويعمل أيضا على منع دخول مياه البحر المتوسط المالحة فى شمال الدلتا إلى هذه الترع لتزيد من ملوحتها ويعمل التبطين على تحسين نوعية مياه الرى، بالإضافة إلى إمكانية تقليص قطاع الترعة بعد منع الفاقد وزيادة سرعة المياه وبذلك نضخ مياها أقل فى الترع، بسبب منع الفقد والإهدار. تقنية التبطين مطبقة فى أغلب دول العالم حتى فى دول الوفرة المائية مثل إثيوبيا ومعها الهند والأردن ولبنان والعديد من الدول الإفريقية والآسيوية وصولا إلى أمريكا.
يتبقى بعد ذلك فقدان المياه عن طريق التبخير وهو فى مصر يبلغ مائة ضعف الأمطار بما يصنفنا على كوننا دولة مناخ شديد الجفاف وعالية البخر وفقدان المياه. وللتغلب على ظاهرة فقدان المياه بالبخر من الترع قامت دولة مماثلة للظروف المصرية مثل الهند بتبطين الترع للتغلب على فقدان المياه بالنشع والرشح، ثم قررت تقليص الفاقد بالبخر عن طريق تغطية ترع القرى بنظام الألواح والمرايا لتوليد كهرباء من الطاقة الشمسية تكفى إحتياجات القرى التى تمر بها من الكهرباء، وأن تكون التغطية بطريقة مثلثات متقاطعة تسمح بمرور ضوء الشمس إلى مياه هذه الترع للتعقيم وعدم سيادة الإظلام فوق المياه حتى لا تتعطن أو تسمح بنمو الفطريات ومختلف أنواع الميكروبات على مياه الترع من المياه العكرة. هنا قد يظن البعض أن تغطية الترع فى الهند ومصر بهذه الألواح الزجاجية قد يعرضها إلى رعونة الأطفال فى قذفها بالحجارة وأنها سرعان ماتفقد وتُدمر!. ولكن عند التطبيق تم التوضيح لوالى القرية وعمدتها ومشايخها وكبراء عائلاتها بأن أى أضرار ستقع على ألواح تغطية الترعة وتوليد الكهرباء سوف تؤدى إلى انقطاع الكهرباء عن كامل القرية كما أن الكهرباء لن تعود إلى القرية قبل سداد تكاليف إصلاح الألواح الزجاجية المضارة من جميع بيوت القرية وبعيدا عن الاعتمادات الحكومية وإنما سيتحمل أهالى القرية فقط تكاليف الإصلاح. ومن هنا شعر الجميع بالمسئولية والتصرف بحكمة وحسم، وتفهم الأطفال فى عمرهم المبكر أهمية الحفاظ على الأموال العامة. وبالطبع مع الوقت ترسخت مبادئ الحفاظ على الأموال العامة.
لمزيد من مقالات د. نادر نور الدين رابط دائم: