قبل نشأة إسرائيل بقليل، على يدى الحركة الصهيونية كقومية علمانية نشأت فى أوروبا وجاء روادها العلمانيون إلى فلسطين غازين محتلين، كان ثمة انشقاق عميق وقع داخل المجتمع اليهودى فى فلسطين بين تيارين: أولهما حريدي/ أرثوذكسى مثل استمرارا لليهودية التقليدية ولكن على نحو أكثر تشددا، يرفض الحداثة، ويتحفظ على طرائق الحياة العلمانية، ويصر على اعتبار الشريعة اليهودية (الهالاخاه) مرجعية نهائية لقوانين الدولة، التى كان يرفضها من الأصل باعتبارها عائقا أمام مسيرة الخلاص الإلهي. وثانيهما يهودى صهيونى ينطوى على وعى أسطورى تتداخل فيه وعود الاختيار والنقاء العرقى، مع وعى قومى ينشد التوسع والاستيطان، يسند إلى الدولة الإسرائيلية دورا خلاصيا فى تسريع عودة المسيح، ويعتبر توسعها فى الأرض الموعودة توراتيا علامة على اقتراب الخلاص. وعلى عكس الحريديم، لم يرفض الصهاينة المتدينون بناء دولة يهودية، بل انضموا إلى الصهاينة العلمانيين فى تشجيع حركة الهجرة والاستيطان وبناء المؤسسات، بل إنهم أسسوا الجناح الدينى القومى داخل المنظمة الصهيونية. وفى حين انفصل الحريديم عن المجتمع العلمانى بعد نشأة الدولة ظل الصهاينة المتدينون يشتركون مع الصهاينة العلمانيين فى الخدمة العسكرية وفى الأجهزة الحكومية، وينشطون فى المهن المختلفة وإن حافظوا على نظام تعليمى منفصل. ولعل التمثيل الأبرز للصهيونية الدينية يتمثل فى جماعة جوش إمونيم أو كتلة المؤمنين التى أسسها الحاخام الأكبر إبراهام إسحاق كوك لا من أجل التنافس على مقاعد الكنيست، بل بهدف تحقيق اليقظة العظمى للشعب اليهودى والخلاص للعالم!. تؤمن جوش إمونيم بأن الوصايا الإلهية للشعب اليهودى تسمو على كل الأفكار الإنسانية، وتلغى كل القوانين التى تتحكم فى العلاقات بين سائر الشعوب، فحينما يطلب الله من الأمم الخضوع للقوانين الخاصة بالعدل والفضيلة، فإنه لا يقصد اليهود الذين اختارهم ليتكلم معهم مباشرة. ومن ثم تقدم الصهيونية الدينية تفسيراً عرقيا متطرفاً للتاريخ، يطمح إلى استعادة العصر المتوهم للمجد اليهودى بإعادة بناء الهيكل الثالث، على أنقاض الحرم القدسى الشريف. ورغم سيطرة الصهيونية العلمانية على إسرائيل منذ نشأتها، فإن الأزمات السياسية والعسكرية التى واجهتها، خصوصا حرب أكتوبر 1973، أسهمت فى تغذية نوع من الإحياء الدينى ينزع إلى قراءة تلك الأزمات فى ضوء أساطيره الوعد والاختيار بقصد التثبت بها والتيقن من وجود مستقبل للدولة، حيث ركز أتباع الحاخامين الصهيونيين: كوك وشاس على الأجزاء الأكثر عدوانية فى الكتاب المقدس، التى يأمر فيها الرب بنى إسرائيل بطرد السكان الأصليين لأرض الميعاد، وتدمير رموزهم المقدسة. وعلى هذا يقترح أتباعهما أن يُسمح للعرب بالبقاء فى أرض إسرائيل كمقيمين أجانب يعاملون معاملة حسنة طالما احترموا دولة إسرائيل دون اعتراف بهم كمواطنين أو منحهم حقوقا سياسية. تدريجيا، انتقلت الصهيونية الدينية من هامش الحياة السياسية الإسرائيلية، إلى قلبها، وبعد تمثيل برلمانى بالغ الضعف اقتصر رموزه على بعض المطالب الخاصة بدعم وتوسيع نظام التعليم الدينى، صار لأحزابها الثلاثة الكبرى فى الانتخابات الأخيرة: الصهيونية الدينية، وشاس، ويهوديت هاتوراه، أكثر من ثلاثين مقعدا، وهو تمثيل قوى يسمح لهم بمشاركة فعالة فى حكومة يمينية يقودها بنيامين نيتانياهو، وبعد أن كان الليكود كتجسيد لليمين السياسى هو الفاعل الأكثر تطرفا بات هو الأكثر اعتدالا فى الحكومة الإسرائيلية القادمة، وبعد أن كان نيتانياهو الأكثر تشددا فالأغلب ان يصبح حملا وديعا بالقياس إلى بتسلئيل سيموتريتش، وإيتمار بن غفير، بينما انهار اليسار الإسرائيلى، خصوصا حركة ميرتس وحزب العمل، كتجسيد للصهيونية التقليدية، وقبلهما حركة المؤرخين الجدد وتيار ما بعد الصهيونية الذى ولد فى ثمانينيات القرن الماضى، ونما فى تسعينياته، مواكبا اتفاقات السلام، واندفاعات العولمة، محاولا تقديم قراءة إنسانية للصراع العربى الإسرائيلى، تتجذر فى حركة التنوير اليهودى النحيفة: الهسكالا، التى ولدت فى ألمانيا من رحم فلسفة التنوير الأوروبى، على يد موسى مندلسون، تلميذ كانط، وامتدت إلى أوروبا الغربية، بهدف صياغة يهودى علمانى، متحرر من الأساطير التوراتية، قادر على الاندماج فى الحياة الحديثة خارج عالم الجيتو الذى لم يعد متناسبا لا مع المجتمع الرأسمالى الصاعد بقوة، ولا مع النزعة الفردية الكامنة فى الحداثة السياسية. حاولت الهسكالا تجاوز القراءة المتشددة للكتاب المقدس، إلى قراءة إنسانية ليست شاذة ولا جديدة تماما بل تتجذر فى أسفار الأنبياء خصوصا إرميا، وإشعياء الثانى، خصوصا حزقيال الذى بشر اليهود فى زمن النفى بأن الله سيعيدهم إلى الإيمان وليس إلى الأرض، لتصير أرض الميعاد الحقيقية هى الأرض بكاملها، بعد أن تتحول جميع قبائلها وشعوبها إلى شعب واحد لله يؤول تنوع عناصره إلى تناغم وتكامل وليس إلى تصارع واقتتال. غير أن الحركة الصهيونية تمكنت فى نهاية القرن التاسع عشر من إجهاض الهسكالا وأقامت دولة استيطانية على قاعدة الفهم اليهودى التقليدى، القائل بأن سوء النية والعداء والتربص صفات أزلية فى الأغيار تدفعهم إلى الفتك باليهودى والتنكيل به مع أول فرصة متاحة، وأن الحل الضرورى فى مواجهة ذلك هو تخلى اليهودى عن موقفه المسالم والمبادرة بالعنف ضد الآخرين. هكذا يبدو لنا أن الصعود الطفرى للصهيونية الدينية، ومناداتها المتوقعة بتحكيم الهالاخاة ليس فقط علامة على ضمور اليسار العلمانى، بل أيضا على نهاية الهاسكالا، كبقايا ضامرة لنزعة إنسانية مستنيرة فى الثقافة الإسرائيلية، نتوقع معه تدهورا متزايدا فى المزاج السياسى الإسرائيلى نحو التطرف، وعنفا أمنيا متصاعدا ضد الشعب الفلسطينى، ستصاحبه فى الأغلب وقائع إعلان موت نهائى لحل الدولتين.
[email protected]لمزيد من مقالات صلاح سالم رابط دائم: