يتابع الملايين فى أرجاء العالم خُطب وأحاديث قادة الدول فى مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ المُنعقد فى شرم الشيخ(COP 27)وهُم يتبارون فى التحذير من الآثار المدمرة للتغيرات المناخية وما سوف تلحقه من خراب على البشرية. وهى تحذيرات سبق إليها العلماء والخبراء من أكثر من ربع قرن، وكررها ممثلو الدول والحكومات عامًا بعد عام فى المؤتمرات الدولية دون تقدم ملحوظ. وهو ما دفع أنطونيو جوتيريش السكرتير العام للأمم المتحدة - قبل انعقاد المؤتمر- إلى التساؤل عما إذا كان قادة الدول سوف يتصرفون على قدر المسئولية أم لا.
هناك اتفاق بين الخُبراء والسياسيين على أننا نواجه أزمة من صنع البشر، وأن مصدرها الاستخدام الكثيف لمصادر الطاقة الأحفورية وهى النفط والغاز الطبيعى والفحم وما تطلقه من انبعاثات كربونية وغازات دفيئة أدت إلى تفاقم مُشكلة الاحتباس الحرارى وارتفاع درجة حرارة الأرض والتغيرات المصاحبة لذلك. هذه التغيرات ليست من صنع الطبيعة ولكنها نتيجة الانبعاثات الصادرة عن المصانع وأنماط الاستهلاك المعتمدة على الوقود الأحفورى كالمركبات والقطارات والطائرات. ومعنى هذا، أن المصدر الرئيسى لهذا الخطر هو الدول الصناعية الغنية. ويُمكن القول إن دول مجموعة العشرين هى المصدر الرئيسى للتغيرات المناخية التى نعيشها اليوم.
وإذا كانت الدول الصناعية الغنية هى سبب المشكلة ومصدرها، فإن الدول النامية هى ضحاياها. جاءت أحداث 2022 لتؤكد خطورة التغيرات المناخية وآثارها الكارثية، فقد شهد هذا العام ازدياد كثافة الأمطار الموسمية فى شهور الصيف فى آسيا، والتى ترتب عليها ارتفاع منسوب مياه الأنهار، وإغراق المساكن والقرى وإجلاء ساكنيها، وهو ما حدث فى الصين والهند وباكستان وبنجلاديش.
وكانت باكستان الدولة الأكثر تضررا حيث أدت الفيضانات إلى إغراق ثلث مساحتها الإجمالية والى إجلاء 33 مليون فرد أى نحو سبع عدد السكان من مساكنهم. وتعرضت الدول الإفريقية لموجات من الجفاف والتصحر وانعدام الأمن الغذائى مما أدى إلى نزوح مئات الآلاف من ديارهم بحثًا عن الغذاء.
وظهر شبح المجاعة فى أكثر من مكان بالقارة. ولم تكُن الدول المتقدمة بمنأى عن هذه الآثار، فارتفعت درجة الحرارة فى عدد من العواصم الأوروبية إلى معدلات غير مسبوقة مما أدى إلى اندلاع العشرات من حرائق الغابات فى بريطانيا وفرنسا وإسبانياواليونان وروسيا، واندلعت حرائق مماثلة فى أمريكا وكندا.
الخطر إذن حقيقي، فلماذا لا يقومُ قادة الدول الغنية بتدارك الموقف واتخاذ إجراءات حاسمة لوقف مسببات التغيرات المُناخية؟
السبب هو أن هذه الإجراءات تضر بالمصالح الاقتصادية لهذه الدول، فرغم كل الآثار السلبية لاستخدام مصادر الطاقة الأحفورية فما زالت هى الأرخص ثمنا والأقرب منالًا وأن استخدام مصادر الطاقة النظيفة يمثل عبئا اقتصاديا بسبب ارتفاع ثمنها. وتؤكد هذه النتيجة تقارير برنامج الأمم المتحدة للبيئة التى تُشير إلى أن النفط والغاز الطبيعى لا يزالان المصدر الرئيسى لإنتاج الطاقة فى العالم، وأنهما يُسهمان بأكثر من 80% من إنتاج الطاقة العالمي، وما زالت خطط إنتاج الفحم والغاز والنفط بعيدة بشكل خطير عن أهداف اتفاق المناخ الموقع فى مؤتمر باريس للبيئة عام 2015. وأضاف تقريرللبرنامج صدر فى أكتوبر 2022، أن خطط الحكومات لتقليص الانبعاثات الكربونية منذ مؤتمر المناخ (COP 26) العام الماضى فى جلاسكو كانت غير كافية بشكل محزن. وأشار تقرير آخر صدر يوم 6 نوفمبر، إلى أن استمرار الانبعاثات الحرارية قد أدى إلى أن تكون درجات الحرارة فى 2022 أعلى من أى عام آخر منذ 2015. ووصف جوتيرش حالة العالم بأننا نعيش فى فوضى مناخية.
فالدول الصناعية الغنية تتصرفُ وفقًا لمصالحها وتوجهات قادتها، ولعلنا نتذكر أن الرئيس الأمريكى السابق ترامب تحلل من كل الالتزامات البيئية وأعلن انسحاب بلاده من اتفاق باريس للمناخ. وفى مواجهة أزمة إمدادات الطاقة فى أوروبا نتيجة للحرب الأوكرانية، اتخذت الحكومة الألمانية قرارًا بالعودة إلى استخدام الفحم وأعلنت تقليص التزاماتها البيئية فى الأجل القصير. وفى هذا السياق، لم تنفذ هذه الدول القرارات التى أصدرتها مؤتمرات الأمم المُتحدة للمُناخ فهى لا ترغب فى التقليل من استخداماتها لمصادر الطاقة الأحفورية لحرصها على الاحتفاظ بمُعدلات نموها الاقتصادي، ولا ترغب أيضًا فى توجيه استثمارات أكبر فى تكنولوجيات إنتاج الطاقة المُتجددة، ثُم إنها لا ترغب فى دفع تعويض للدول النامية والهشة بيئيًا عن الخسائر التى تكبدتها بسبب التغيرات المُناخية. ولم تُقدم التمويل لصندوق الأمم المُتحدة لدعم الدول النامية بقيمة 100 مليار دولار والذى صدر قرار إنشائه فى مؤتمر المناخ بكوبنهاجن 2009. ومنذ هذا الوقت، يُصدر كُل مؤتمر للمناخ دعوة للدول الغنية للوفاء بالتزاماتها المالية دون جدوى.
ومن المُحزن أن هذا التقاعُس تجاه قضايا التغيُرات المناخية امتد إلى بقية دول العالم. يدُل على ذلك أنه فى مؤتمر المناخ فى جلاسكو فى 2021 صدر قرار بأن تتقدم كُل دولة بخُططها التفصيلية لتحقيق الأهداف التى تم إقرارها فى مؤتمر باريس. وحسب بيانات الأمم المُتحدة، فإنه لم يتقدم سوى 23 دولة بهذه الخُطط وذلك من أصل 193 دولة.
وهكذا، يتحدث الجميع بأعذب الكلمات وأكثرها مثالية وحرصًا على الجنس البشرى ومُستقبل الكوكب، بينما تستمر اقتصادات أغلب الدول فى الاعتماد على مصادر الطاقة الأحفورية. فصدرت عشرات القرارات على مدى سنوات دون أن تجد طريقها إلى أرض الواقع، وهذا ما يُفسر المُبادرة المصرية بأن يكون عُنوان مؤتمر شرم الشيخ التنفيذ.
فهل يتحقق ذلك؟
لمزيد من مقالات د. على الدين هلال رابط دائم: