أشار كل من صندوق النقد والبنك الدوليين الى ان عام 2023 سيشهد المزيد من التراجع فى النمو بل والدخول فى ركود اقتصادى، جنبا الى جنب مع تسارع معدلات التضخم بمعدلات غير مسبوقة. ووجها بضرورة قيام البنوك المركزية برفع معدلات الفائدة حتى تتمكن من محاربة التضخم الذى وصل الى مستويات لم يصل اليها منذ أربعة عقود على الأقل. الأمر الذى دفع بمديرة صندوق النقد الدولى للقول إن التضخم الحالى لا يمكن وصفه بأنه مؤقت من قريب اوبعيد، اذ أصبح مزمنا أكثر مما كان. وهو نفس ما أكده محافظ البنك المركزى البريطانى الذى ابدى قلقه قائلا إنه يشعر بالعجز أمام ارتفاع التضخم الحالي.
ويتزامن ذلك مع تراجع معدلات النمو الاقتصادى بصورة كبيرة وفى ظل أوضاع أكثر هشاشة وعلى درجة كبيرة من عدم الاستقرار، حيث يواجه الاقتصاد العالمى مجموعة من التحديات التى نادرا ما يشهد العالم مثيلا لها، منذ الحرب العالمية الثانية. الأمر الذى دفع بصندوق النقد الدولى لخفض توقعاته بشأن النمو أربع مرات منذ بداية العام حتى أكتوبر 2022 لتصل الى 3.2% لعام 2022 و2.9% عام 2023 وهكذا يمر الاقتصاد العالمى بأشد موجة تباطؤ منذ كساد عام 1970.
ومما زاد من تعقيد الأزمة التقلبات الاقتصادية والتغييرات الجغرافية والسياسية مع خطر تجزؤ الاقتصاد العالمى الى كتل جغرافية وسياسية لكل منها معايير ونظم مدفوعات مختلفة وعملات احتياط خاصة بها مما يزيد من خطر الصراعات والتقلبات الاقتصادية وتراجع الكفاءة الإنتاجية للكل، وهكذا تحولت مقولة إنه الاقتصاد ياغبى التى أطلقها جيمس كارفيل الخبير الاستراتيجى لحملة بيل كلينتون 1992، ضد جورج بوش الاب، إلى أنها الجغرافيا السياسية أيها الغبى، فالعالم يسير تجاه التعددية القطبية وليس القطب الواحد. فضلا عن الكوارث الطبيعية وتغيرات المناخ التى أصبحت أكثر توترا وتدميرا، وهو ما أشار اليه تقرير التنمية البشرية الصادر مؤخرا عن البرنامج الإنمائى للأمم المتحدة للقول نحن نمعن فى زعزعة الاستقرار للنظام الأرضى رغم اننا لا يمكن ان نحيا بدونه.
وهنا تطرح عدة تساؤلات أولها هل رفع الفائدة وحده يساعد على محاربة التضخم؟ وثانيا إلى أى مدى سيسهم رفع الفائدة فى زيادة حالة الركود الحالية؟ والاهم من هذا وذاك كيف يمكن للاقتصاد العالمى الخروج من المأزق الراهن والعودة الى مسارات النمو الاقتصادى من جديد؟
لا شك فى ان الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها يتطلب البحث فى العوامل والأسباب الكامنة وراء ازدياد التضخم. فمع تسليمنا الكامل بانها تختلف من دولة لأخرى إلا أن هناك عوامل مشتركة ساهمت فى تأجيج نار التضخم، يأتى على رأسها آثار التعافى من كورونا والاختناقات فى سلاسل الإمداد العالمية وإطلاق الطلب المكبوت لدى معظم البلدان، وهو ما تزامن مع الحرب الروسية الأوكرانية التى أدت الى ارتفاع أسعار السلع الأساسية، وجاءت اعلى المستويات الارتفاع فى أسعار السلع الغذائية لدى البلدان النامية لانعدام الامن الغذائى بها مما ألقى بمزيد من الأعباء على كاهل هذه البلدان خاصة مع تراجع أسعار صرف العملات امام الدولار. وزيادة مخاطر القلاقل الاجتماعية، نتيجة لكون التضخم يؤدى الى خفض القوة الشرائية للمواطنين مما يزيد من الشعور بعدم تحسن مستويات المعيشة ويؤدى الى إعادة توزيع الدخل والثروة لصالح الأغنياء ويحد من الكفاءة الاقتصادية ويؤدى الى سوء تخصيص الموارد.
من هذا المنطلق فان استخدام آلية أسعار الفائدة لمحاربة التضخم يصبح محل شك كبير وتذهب بعض الدراسات الى انها ليست سوى أداة خرقاء، على حد تعبير وول ستريت، لاسيما اذا كان مصدرها هو السياسة المالية. فارتفاع أسعار الفائدة والحاجة الى حماية الفئات الأكثر تضررا من ارتفاع الأسعار يجعلان من الحفاظ على استدامة السياسة المالية أمرا اكثر صعوبة ويؤدى الى تآكل الحيز المالى وتراجع الاستثمار نتيجة لزيادة تكاليف الاقتراض وإحجام المستثمرين عن التوسع فى الاستثمار ومن ثم يؤدى الى المزيد من الركود، ولهذا يرى البعض إن نسبة نجاح البنك الفيدرالى الأمريكى فى ابطاء التضخم دون التسبب فى ركود اقتصادى لا تتجاوز 10%.
كما ان قيام الفيدرالى الأمريكى برفع الفائدة سيؤدى الى ارتفاع سعر صرف الدولار الأمريكى مقابل العملات الأخرى ومن ثم زيادة تكاليف الاقتراض، الامر الذى يلقى بظلاله على الدول النامية فى ظلال موجة خامسة للمديونية، خاصة أن عام 2022 قد شهد اكبر طفرة فى الدين العام خلال عام واحد منذ الحرب العالمية الثانية، وبالتالى ارتفاع الدين العالمى (العام والخاص)، ويشير صندوق النقد الدولى الى ان نحو 60% من البلدان منخفضة الدخل اما فى حالة مديونية حرجة بالفعل، او معرضة لمخاطر عالية تهدد ببلوغها، وهى نسبة تعادل ضعف المستويات المسجلة عام 2015. وهنا تشير تجربة الركود التضخمى فى السبعينيات من القرن الماضى الى ان ارتفاع معدلات التضخم مع تراجع النمو الاقتصادى قد أدى الى 40% من ازمة المديونية آنذاك، وأعقبه عقد من التراجع الاقتصادي. يضاف الى ما سبق المسار العكسى للتدفقات الرأسمالية وخروجها من الأسواق الناشئة حيث يقدر ان نحو 40% من محفظة الأوراق المالية قد خرجت من هذه الأسواق. كل هذه الأمور وغيرها تدفعنا لتأكيد ما ذهب اليه ديفيد مالباس، رئيس مجموعة البنك الدولى قائلا إن تحقيق معدلات تضخم منخفضة واستقرار العملات وتسريع وتيرة النمو يتطلب ان يحول واضعو السياسات التركيز من تخفيض الاستهلاك الى تعزيز الانتاج ويجب ان تسعى السياسات الى توليد الاستثمارات الإضافية وتحسين الإنتاجية وتخصيص رأس المال، وهى عوامل ضرورية لتحقيق النمو المستدام والحد من الفقر.
لمزيد من مقالات عبدالفتاح الجبالى رابط دائم: