رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

أول رسوم لوجه الإنسان فى تاريخ الفن
بورتريهات الفيوم.. وجوه تتطلع إلى الحياة الأبدية!

أسامة الرحيمى

ضمن اعتقادهم بالحياة الأبدية، والعالم الآخر، اهتم المصريون القدماء بتحنيط جثامين راحليهم. التى عرفت باسم المومياوات، حيث يجب أن تعثر الروح «البا» على جسدها «الكا» بسهولة فى الآخرة. حين يرقد فى سلام، وتعبر روحه إلى عالم الخلود، يجب أن تكون به علامة تُسهِّل على الروح التعرف عليه، والاندماج فيه مجددا. لذا كانت صورة الوجه هى أمثل الحلول. فرسموا ملامح المتوفى على لوح خشبى رقيق، يوضع على رأس تابوته أو بجواره فى القبر، وإذا كان التابوت ملفوفا بالكتّان، يرسمون وجه المتوفى على رأس التابوت ويبروزونه بلفائف الكتان. ومن هنا بدأ فن البورتريه لأول مرة فى تاريخ العالم.

وربما كان أول هاجس لرسم الوجوه، هو قناع الملك «توت عنخ آمون» الذى يطابق ملامح وجهه، وكان سابقا على وجوه الفيوم بآلاف السنوات، ويبدو أنه كان ملهما للفنانين الذين قاموا برسم وجوه المتوفين، لكنهم رسموها على مواد أقل من الذهب بكثير، من الخشب والجصّ والكتان.

.............


وكان فن التحنيط متطورا جداً فى الدولة المصرية القديمة «2800 ق. م»، وكانت حماية الجسد من التحلل ضمانة فى معتقدهم لسعادة المتوفى وانتقاله للعالم الآخر فى دعة وراحة، وتطور التحنيط بتطور المعتقدات المؤمنة بالخلود، واكتسب التحنيط هالة أسطورية منذ قام الإله «أنوبيس» كبير آلهة العالم القديم بتحنيط «أوزيريس» بعدما جمعت «إيزيس» أشلاء جسده الذى قطّعه شقيقه «ست». وظلوا يؤمنون باتحاد المتوفى مع «أوزيريس» فى العالم الآخر بعد تحنيطه، ومحاكمته.

وارتبط خلود المتوفى فى الوجدان المصرى القديم ببقاء الجسد وسلامة ملامح الوجه بعد التحنيط، فكما كانت تحفظ جثامين الملوك والنبلاء وكبار رجال الدولة فى توابيت حجرية محكمة الغلق ويتم إخفاؤها بعيدا عن عيون اللصوص والعابثين، وارتفاع تكلفة تلك التوابيت، ابتكرت الطبقة المتوسطة والفقيرة أقنعة لوجوه موتاهم من الكارتوناج توضع على توابيت خشبية ثمنها أقل من الحجرية.

وثبّتوا الأقنعة المرسومة بطبقات من الكتان وورق البردى بالغراء والجبس، ورسمها مطابقة لصورة المتوفى، بدءا من عصر المملكة الوسطى «2000 ق.م». ودفن مومياوات الفقراء ذات الأقنعة كانت تتم بأبسط تكلفة، وفى جبانة عامة على أطراف الصحراء.

وبعد فترة دار الفنانون الشعبيون الذين أبدعوا البورتريهات على البيوت لرسم سكانها الأحياء، وكان صاحب البيت يضع صورته المرسومة على بوابة منزله بديلا عن اسمه، ليستدل الناس على بيته، وعند وفاته ينقل البورتريه من واجهة بيته إلى تابوته الخشبى الذى يضم جسده بعد تحنيطه، وظل هذا التقليد المصرى موجودا فى العهدين اليونانى والرومانى، ودفن البطالمة والرومان موتاهم بطريقة المصريين، رغم عدم إيمانهم بعقيدة البعث. ورُسمت بروتريهات للنبلاء المحليين وأشراف المدن. وهذه الرسوم المبهرة مجهولة الفنان، تجاوزت قيمتها الجنائزية، وألهمت المدارس الفنية حول العالم. وفى مراحل لاحقة غلب عليها الطابع الإغريقى الرومانى أكثر من المصرى القديم.

وأغلب الوجوه التى عثر عليها كانت فى الإقليم الممتد من منطقة هوّارة إلى أواسط مصر، لذا اشتهرت باسم الفيوم. ويذهب آثاريون إلى أنها لوحات جنائزية مصرية ازدهرت فى الفترة الرومانية. ويرجحون أنها فى القرن الأول للميلاد، ولا يعرف أحد يقينا متى توقف المصريون عن رسمها. وإن رجّح البعض أنها توقفت فى القرن الثالث الميلادى.

واُكتشف منها حوالى 900 لوحة فى مقابر الفيوم، ويعود الفضل فى حفظها طوال قرون إلى مناخ المنطقة الجاف الحار الذى حافظ عليها بحالة ممتازة، لدرجة تبدو معها الألوان حديثة، أو لم تجف بعد.

ويذكر أن «بيترو ديلا فاليه» المستكشف الإيطالى أول من اكتشف اللوحات عام 1615 فى مدينتَى سقّارة ومنف، ونقل بعض المومياوات والبورتريهات إلى أوروبا، وهى الآن فى قاعات «ألبرتينوم» بمتحف الفن الحديث فى «دريسدن» الألمانية. وبعد اكتشافه تضاعف الاهتمام بمصر القديمة، ولم يكتشف أحد مومياوات ولا وجوه بعد ذلك إلّا فى القرن 19. وكانت سقارة مصدر الاكتشافات الأول فى 1820 فى عهد محمد على، ففى 1827 اكتشف «ليون دى لابورد» لوحتين فى منف، واحدة منها فى اللوفر، والثانية بالمتحف البريطانى.

ثم قدّم «إيبوليتو روسيلينى» «عضو البعثة المصرية 1828-1829التابعة لشامبليون» مزيدًا من اللوحات من مصدر واحد. وأرسل القنصل البريطانى بمصر «هنرى سولت» لوحات أخرى إلى باريس ولندن. وامتداد الفترة الإغريقية الرومانية لنحو ألف سنة، ساعد على انخراط اليونانيين والرومان فى المجتمع المصرى، وأصبحوا جزءا من السكان. ورغم تمسك أهل الفيوم بتقاليدهم القديمة، اندمجت الثقافتان فى الطقوس الجنائزية، مثل زخرفة المومياوات، ورسم البورتريهات، وصناعة الأقنعة الجصّية والكارتوناج الملونة، وامتزجت العناصر اليونانية الرومانية بالمصرية، وانتشرت ظاهرة رسم صور المتوفين، على الخشب والأقنعة الجصّيّة، للسيدات والرجال والأطفال، ومع انتشار المسيحية خفّت تدريجيا عادة تحنيط الموتى خلال القرنين الثالث والرابع الميلادى، استنادا لنص الإنجيل: «فمن التراب نحن، وإلى التراب نعود عند الموت». ما يفسر عدم ارتباط وجوه الفيوم بالمسيحية.

وأغلب ما عثر عليه من بورتريهات الفيوم، اكتشف بمنقطة الجبانة الرومانية فى هوّارة شمال هرم امنمحات الثالث فى «اللابرنت» أو «قصر التيه» حيث كان سكان «أرسينوى» أو «كروكو ديلو بوليس» يدفنون موتاهم بمنقطة «الروبيات» شمالى شرق الفيوم.

وبعض البورتريهات وجدت فى أخميم، والشيخ عبادة أو «أنتيو بوليس» المدينة التى أنشاها الامبراطور «هادريان» تخليدا لصديقه «أنتيووس» بعد غرقه فى النيل حين زار مصر سنة 130م. وأحدث اكتشافات البورتريهات كانت فى مارينا العلمين غرب الإسكندرية.

وتختلف وجوه الفيوم نسبيا عن الفن المصرى القديم، فظهر فيها لأول مرة انعكاس الضوء، واتضحت الظلال، ففى المقابر المصرية القديمة كانت صورة الوجه من الجانب، ورسم الوجه من الأمام كان نادرا، واقتصر ذلك على الشخصيات الثانوية، فالهدف الدينى والجنائزى قيّد حرية الفنان فى التجديد، ورغم هذا فهناك تصوير من عهد الأسرة السادسة فى مقبرة «ميرى روكا» بسقارة يعود إلى حوالى 2300 ق.م استخدمت فيه تلك التقنية. وتؤكد الصورة أسبقية فن الرسم فى مصر الوسطى، الذى اختلف عن فن مدينة الإسكندرية.

واستخدمت فى صناعة لوحات الوجوه أنواع متعددة من الأخشاب، وطلاء الألواح الخشبية جعلها من أجمل أدوات الرسم الكلاسيكى. وفى حالات نادرة كان تلوين الوجوه يتم فى الاتجاه العرضى لألياف الخشب، وغالبا كانت تتعرض للتلف، وأغلب الوجوه التى عثر عليها بحالة جيدة كانت الرسوم فى الاتجاه الطولى لألياف الخشب، وأغلب اللوحات التى عثر عليها من خشب الجميز المصرى، خاصة ذات الحامل السميك، وقليل منها كان من أخشاب السرو والأرز والصنوبر والليمون والزيزفون.

ورُسمت لوحات الفيوم بأربعة ألوان أساسية، الأبيض، والأصفر، والأحمر، والأسود، وكانت تُستخدم فى رسم الشعر والوجه، أما الألوان الإضافية، مثل الأزرق، والأخضر، والأرجوانى فاستخدمت فى تلوين الملابس والمجوهرات والتيجان، ما شكل تناغمًا رائعًا، وقد أُضيف اللون الذهبى إلى المجوهرات والتيجان وزخرفة الملابس، وكانت تستخدم لذلك، إما أوراق الذهب الأصلية، أو لون يحاكى الذهب، وفى حالات محددة كانت تضاف رقائق الذهب لرسم إكليل الرأس، واستخدموا بياض البيض للصق ورق التذهيب على اللوحة المرسومة بألوان الشمع، وهو ما ورثته الحضارة البيزنطية.

وتعرضت اللوحات لكثير من المشاكل، مثل التشقق وتقشر الألوان لتمدد وانكماش الخشب, أو انفصال شرائحه عن بعضها, وتسرب الطين والرمال بين فراغات الخشب. إضافة لتدهور حالة بعض البورتريهات لسوء التداول وتعريضها لظروف مناخية سيئة أثناء نقلها.

وهى رسم للوجوه كاملة من الأمام، ملتفتًة إلى اليسار قليلا ببعض اللوحات، وتمثل أشخاصًا حقيقيين. وتعتبر بشكل قطعى أقدم تصوير لوجه الإنسان فى التاريخ، وتختلف عن الفن المصرى القديم الذى درج على رسم الوجوه من الجانب، حتى لو كان الجسد من الأمام أو الخلف، ما جعل البروتريهات مدرسة جديدة طوّرت الفن القديم. واختلف الباحثون حول طبيعة الوجوه. أهى مصرية؟ أم يونانية رومانية؟ أم بيزنطية؟. لكن الغالب عليها ملامح المصريين بمقارنة الملامح مع مصريى هذا الزمان، حتى لو كانت الأسماء مكتوبة باليونانية، أو كانت الملابس والتسريحات والحُلى رومانية، وأى محاولة للتشكيك فى مصريتها لا يمكنها الصمود أمام النضج الفائق الذى وصل إليه الفن المصرى القديم، فى الرسوم والنحت والتصوير والتلوين، واستخدام الرموز.

وكان الاسم يُكتب عليها، أو على اللفائف، وعلى الآثار المرفقة باليونانية أو الديموطيقى، وكُتب الاسم أحيانا باللون الأبيض واليونانية أو بالديموطيقى على رقبة صورة المتوفى، وثمّة أسماء يونانية مثل هيرميونا، وديموس، وأرتيمدوس. وتتميز «وجوه الفيوم» بالنظرات الهادئة، التى دفعت الفيلسوف والروائى الفرنسى «أندريه مالرو» للقول: «إنها وجوه تتطلع إلى الحياة الأبدية»، ورجّح أنها حقيقية، وتمثل منطقة وسطى بين الحياة والموت، واللوحات فى إجمالها دليل على حيوية الحضارة المصرية القديمة وقدرتها على استيعاب الآخر، كما استقبلت الحضارتين اليونانية والرومانية ببساطة.

ويجمع المؤرخون على أن التصوير على الخشب، بدأ مطلع القرن الأول قبل الميلاد، حيث بدأ رسم صور الموتى بالألوان على لوحات خشبية توضع على توابيت المومياوات، وباختفاء عادة التحنيط فى القرن الثالث الميلادى، اختفى هذا الفن، وبدأ ظهور الرموز القبطية والأيقونات فى القرنين الثالث والرابع الميلادى كامتداد طبيعى للفن المصرى القديم، وربما كان هذا سبب إدراج الوجوه ضمن الفن القبطى.

ويعتقد آثاريون أن بعض اللوحات رُسمت أثناء حياة أصحابها، وكانوا يُعلّقونها على جدران منازلهم إلى حين وفاتهم، لتوضع على وجه مومياواتهم. وأغلب تلك الوجوه رُسمت بعد وفاة أصحابها، وفى بعض المقابر عثر على لوحات بدون مومياوات.

ورُسمت وجوه الفيوم بأسلوب لا تخطئه العين، فيّاضة بالمشاعر، وأغلبها حزينً، وربما كان هذا لكونها جزءا من طقس جنائزى. وتتسم الوجوه كذا بالحيوية والنظرات الهادئة، وتبين روعة الإبهار وقوة التأثير لقدرة مبدعيها وتمكنهم التقنى من فن البورتريه، وقدرتهم على محاكاة الحقيقة، وبراعتهم باستخدام متناقضات، ما جعل لوحاتهم تفيض بالمعانى العميقة واستنفار الخيال.

ولحل إشكال تذكُّر الراحلين، ومغالبة افتقادهم، ابتكروا فن البورتريه، ورسم صورهم، فكانت «وجوه الفيوم» أول مثال عمليّ لتلك الفكرة. كونها مطابقة لأصحابها، شخوص بعيون واسعة تبرق بها لمعة الحياة، ومتشابهون لحد ما، لكن، تبقى لكل منهم ملامحه المميزة.

واعتقد المصريون أن الوجوه لرومان إغريق، واعتقد الإغريق والرومان أنها لمصريين، ولحلحلة هذا الخلاف رأى البعض إلى أن زواج أفراد الجيش الإغريقى من مصريات صنع تداخلا فى الأعراق فتماهت الملامح وتداخلت. وأغلب أصحاب الصور من الطبقة العليا، جنود وأثرياء، وإن لم يذكر ذلك ضمن بياناتهم، لكن تم استنتاج أنهم من طبقة عليا من نوعية الخامات المستخدمة الفخمة.

لذا يظل الموضوع مفعما بالغموض. فهل هى صور أصحابها بالفعل؟ أم اعتمدت أنماطا معينة؟ مثل تكرار شكل الأعين مع تغييرات طفيفة، وأنواع بعينها من الشعر والأنوف والشفاة. لكن للحقيقة، وبأقل نظرة فاحصة للوجوه ونظرات العيون، وشكل اللحية، والشعر الكِيرليِ، ترى عالماً من الجمال السحرى، فإن كانت صورا لشخوص ماتوا فعلا، فقد بثّ رساموها الحياة فيها، بما يبدو فى العيون من شجن، وفى الملامح من جمال، وعلى الشفاة نضارة، اهتماما منهم بالحياة الأبدية، وأن الموتى بتلك الرسوم سيبقون على قيد الحياة، وهو ما حوّل رسم الوجوه إلى فن جنائزى.

‪وتعتبر البورتريهات وثيقة تاريخية عن المستوى الاجتماعى والاقتصادى للطبقات، وعرضا للأزياء السائدة وقتها، وأنواع المجوهرات والحُليّ. وهوية فنّيّة لطبقة قادرة على العيش برفاهية. إضافة لإظهارها قدرة الفن على التجدد والتمرد، بانتقاله من جدران المعابد إلى ألواح يسهل نقلها. فيما يمكن اعتباره مقدمة لرسم الأيقونات القبطية، لكنها تجاوزت مقاصد صانعيها، وزمانها، لتصل إلى زماننا هذا، لتخبرنا كيف ولد هذا الفن العظيم.‬

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق