أثار فيلم كيرة والجن الذى اعتمد عن رواية و سيناريو أحمد مراد بعنوان 1919 وقام بإخراجه مروان حامد اهتمامًا واسعًا بين مشاهديه. فقد قدم مشاهد سياسية وإنسانية حية عما دار فى مصر فى تلك الأيام من خلال نماذج بشرية متنوعة وأشكال مشاركتها فى النضال الوطنى ضد الاحتلال الإنجليزى وذلك فى صورة جديدة لم يكن الشباب والأجيال الناشئة تدركها على هذا النحو.
ينضم هذا الفيلم إلى مجموعة الأفلام التى تناولت أحداث ثورة 1919 بتركيزها على بعض أحداثها أو تناولها لسيرة حياة وجهاد احدى الشخصيات السياسية أو الاجتماعية التى لعبت دورا مؤثرا فى هذه الفترة. ومن هذه الأفلام مصطفى كامل عام 1952، وبين القصرين عام 1964، وسيد درويش عام 1966، وإضراب الشحاتين عام 1967، والبطل عام 1998.
أضف إلى ذلك، عدة مسلسلات تليفزيونية مثل جمهورية زفتى 1998، وقاسم أمين 2002، ومصر الجديدة 2004، ومشرفة رجل هذا الزمان 2011.
ويقدم فيلم كيرة والجن إضافة جديدة تمثل التطور التقنى المبهر فى تصوير المناظر وتسجيل الصوت، فيتوقف المشاهد أمام لحظة بداية الفيلم وهى مأساة قرية دنشواى عام 1906 وعنف الجنود الإنجليز فى تعاملهم مع الفلاحين المصريين، وصور الإعدام التى هزت مشاعر المشاهدين وأرجفت قلوبهم. ويتوقف أيضا أمام الاستخدام الذكى لموسيقى فنان الشعب سيد درويش ولحنه عن العمال المشهور باسم أغنية الكُترة والتى أداها بصوته. واتصالًا بذلك، يتوقف أمام الاحتفال الجماعى بعيد مصرى صميم وهو شم النسيم وترديد المشاركين فيه أغنية سيد درويش عن العلاقة بين الدين والوطن ودور الإنجليز فى زرع الفتنة بين المسلمين والأقباط، والتى ورد فيها «غيرشى اللى كان هالك ابداننا ومطلع النجيل على عيننا، ان فهمى يكره حنا وايش دخل دنيانا فى ديننا؟»
والحديث عن ثورة 1919 يعيد إلى الأذهان على الفور مفهومى المشاركة الشعبية الواسعة، والوحدة الوطنية بين مختلف مكونات الشعب المصري، فقد اتسمت هذه الثورة بطابعها الشعبى الذى اتخذ شكل المظاهرات والاحتجاجات والجمعيات السرية التى نظمت عمليات اغتيال لرموز الاحتلال. وضمت هذه المشاركة كل المصريين، فيظهر فى الفيلم المسلم والمسيحى واليهودي، والرجل والمرأة، وأبناء القاهرة والصعيد، والفقراء والأغنياء، والشباب والرجال وكبار السن، العمال والفلاحون وأصحاب المهن من طبيب وسمسار ومدرس وموظف.
فى هذه الأجواء، بدت مصر كبوتقة انصهرت فيها كل الاختلافات لتظهر فى بعث روح الوطنية العارمة بين المصريين، وهو ما دفع توفيق الحكيم أن يصف هذا المشهد بتعبير الكُل فى واحد وذلك فى روايته عودة الروح التى كتبها فى أواخر العشرينيات ونشرها عام 1933.
ويظهر هذا التنوع فى شخصيات الفيلم والمسارات المختلفة التى قادتهم للمشاركة فى الثورة، فهناك كيرة الطبيب الذى يبدو مسالمًا ولا شأن له بالسياسة يذهب كل صباح إلى عمله ولكنه فى المساء يقود مجموعة من الثوار المقاومين للاحتلال، والتى تقوم بأعمال عسكرية ضد جنوده. والجن المنفلت سياسيًا وأخلاقيًا فيتاجر مع معسكرات الإنجليز فى الإسماعيلية ويتعاطى المخدرات لحين تحوله وانضمامه إلى صفوف الثورة وتعاونه مع كيرة.
ويربط الفيلم بين الدوافع الشخصية للإنسان وتوجهاته الوطنية العامة حيث فقد كل من كيره والجن أباه على يد الإنجليز.فوالد كيرة كان ضابطًا بسلاح المدفعية فى الجيش المصرى وحاكمه الإنجليز لدوره فى تأييد الثورة العرابية، وتم إعدامه رميا بالرصاص. أما والد الجن، فقد لقى نفس المصير على يد الضابط الإنجليزى آرثر وكيل حكمدار القاهرة.
وتعاون كيرة والجن فى إطار إحدى مجموعات تنظيم اليد السوداء وهى الجمعية السرية التى قامت بدور أساسى فى الكفاح المسلح خلال ثورة 1919، وكانت مرتبطة بالنضال السياسى للوفد، ورأسها عبدالرحمن فهمى أحد قادته. وجدير بالذكر، أن الأستاذ عباس محمود العقاد شارك فى هذه الجمعية بكتابة منشوراتها المعادية للاحتلال. وظهر فى الفيلم مشهد لقاءات هذه المجموعة فى سرداب أسفل مقهى ريش الشهير الذى تأسس عام 1908، والموجود حتى الآن بوسط القاهرة بالقرب من ميدان طلعت حرب.
وكان من الأعمال التى قامت بها هذه المجموعة، اغتيال محمد شفيق باشا وزير الأشغال بقنبلة فى فبراير 1920. واستمر هذا الترابط الإنسانى بين الاثنين-كيرة والجن حتى بعد مصرع كيرة، فقد تعهد الجن برعاية ابنه. وكان أحد آخر مشاهد الفيلم صورة الجنس وهو عجوز طاعن فى السن يعيش مع ابن كيرة وزوجته وأولاده.
من المهم للغاية أن يشاهد الشباب هذا النوع من الأفلام، وكانت سعادة غامرة لى معرفة الأعداد الكبيرة التى ترددت على دور السينما منذ بدأ عرض هذا الفيلم فى 30 يونيو 2022 والذى بلغت إيراداته حتى بداية شهر سبتمبر 112 مليون جنيه. فقد جمع الفيلم بين تغطية أحداث مكافحة المصريين للاحتلال، وتقديم صور بشرية لرجال ونساء شاركوا لأسباب مختلفة فيها وذلك فى إطار من الإثارة والتسلية التى أغرت المشاهدين بالبقاء على مقاعدهم ثلاث ساعات إلا خمس دقائق.
والمعنى الذى ينقله الفيلم هو أن استقلال مصر لم يأت بسهولة أو بدون ثمن، فقد بدأ الاحتلال العسكرى الإنجليزى فى سبتمبر 1882 من خلال القوة المسلحة وتطلب الأمر لإنهائه كفاح أجيال متتالية من المصريين. كانت أبرز مظاهره، أحداث ثورة 1919 فى بعديها السياسى والعسكري، ثم حركة الفدائيين فى منطقة القناة التى بدأت عام 1950حتى تم توقيع اتفاقية الجلاء أكتوبر 1954.
إن الحفاظ على الذاكرة التاريخية للمصريين أمر مهم وتمثل مصدرًا لتماسكهم الاجتماعى وتطلعاتهم نحو المستقبل.
لمزيد من مقالات د. على الدين هلال رابط دائم: