البداية دائماً صعبة.. خاصة حينما يتعلق الأمر بالإبداع..وحينما تطرح رؤية جديدة مختلفة عن تلك الرؤية السائدة.. يجد المبدع نفسه فجأة أمام تحد كبير ومواجهة صعبة من جانب القدامى.. أصحاب المدارس العريقة الراسخة.. الذين يملكون النفوذ والعلاقات والسلطات.. وهو فى بداية الطريق.
هذه المعارك التى يخوضها المبدعون فى جميع مجالات الإبداع: فنون تشكيلية..مسرح.. شعر.. رواية..إلخ. هى التى تبعث الحياة فى مجال الإبداع.. وتحدث هذا الميكانيزم فى التجديد.. فالاستقرار والاستمرار على وتيرة واحدة حتى ولو كانت ناجحة يؤدى إلى تجمد الإبداع وفنائه بمرور الزمن.
معارك عديدة خاضها أصحاب المدرسة الانطباعية فى الفنون التشكيلية فى مواجهة المدرسة الكلاسيكية بكل ما تملك من تاريخ ونفوذ مهيمن على الذوق العام..كان ذلك فى باريس عاصمة الفن فى منتصف القرن التاسع عشر.. حينما أرسل مجموعة من الفنانين الشباب لوحاتهم إلى لجنة مكلفة باختيار الأعمال التى يمكن عرضها على الجمهور.. وكانت المفاجأة الكبرى: أعادت اللجنة اللوحات إلى الفنانين باعتبارها لم تكتمل بعد! كان أمامهم اختياران: إما الانصياع للجنة التى تمثل رأى الأكاديمية الفرنسية للفنون، أو الاستقلال والتمسك برؤيتهم الجديدة التى تعبر عن اتجاه مبتكر ومختلف لم تألفه المدرسة الكلاسيكية..أعلنوا التحدى.. لم يكن الأمر سهلا بطبيعة الحال..أقاموا معارض خاصة بهم بعيدا عن الدوائر الرسمية..ولم يتقبل الجمهور لوحاتهم الغريبة على ذوقه.. وانهالت مقالات نقدية تهاجم وتدين أعمالهم..كان معيار النجاح السائد فى ذلك الزمن هو مدى قدرة اللوحات الفنية على محاكاة الطبيعة.. باقة من الفنانين الكبار تصدروا هذا الاتجاه نذكر منهم على سبيل المثال دافيد، دى لاكروا. أنجر وغيرهم.. وكسر هؤلاء الفنانون الشباب هذا المألوف..قدموا فنا جديدا لا يأبه بهذه القواعد القديمة الثابتة.. ونال الفنان مانيه قسطا وافرا من الهجوم.. إذ أحدثت لوحته الشهيرة الإفطار على العشب ضجة هائلة لجرأة عرضه وغرابة التركيبة الفنية للوحته.. لكن رغم هذا الهجوم الهائل الذى واجهته هذه المدرسة الانطباعية الجديدة، صارت بمرور الزمن خطا فنيا له مكانته وجمهوره العريض الذى يحبه.. بل وفتحت الأبواب أمام مدارس أخرى جديدة مثل المدرسة التكعيبية والتعبيرية والسيريالية.
وشهدت فرنسا أيضا فى منتصف القرن التاسع عشر معارك مماثلة فى مجال الشعر.. حينما بدأت القصيدة النثرية الحديثة أولى خطواتها فى عالم الإبداع.. انهال الهجوم عليها.. وتصدى المدافعون عن القصيدة الكلاسيكية للتنكيل بالقصيدة الجديدة قائلين: هذا ليس شعرا.. بل مجرد أبيات مرسلة.. الشعر له قواعد وأصول يجب أن تحترم.. وتعرض ديوان أزهار الشر لبودلير لنصيبه الهائل من الهجوم..دافع الشاعر عن ديوانه وعن الشكل الشعرى الجديد الذى اتبعه قائلا: هذا الشكل الشعرى يستوعب فى كلماته وسياقاته تناقضات الحياة اليومية فى المدن الكبرى مثل باريس.
كان بودلير سابقا لعصره..يؤمن أن وظيفة الشعر هى النظر فى عمق الحياة.. فى أى مشهد يراه المرء حتى وإن بدا عاديا.. لابد أن يكون الشاعر إنسانا أولا قبل كل شىء.. فالمواءمة عنده بين الشرط الشعرى والشرط الإنسانى هى التى تصنع الشاعر الحقيقى..وأوصل ديوان أزهار الشر بودلير إلى المحكمة..وقف الشاعر فى القفص ينال جزاءه عن تهمة كتابة شعرية جديدة وجريئة لم تكن مألوفة آنذاك..لم يسجن بودلير، لكنه دفع غرامة ٣٠٠ فرنك فرنسى وهو مبلغ كبير بحساب تلك الأيام.. حقاَ تعرض الشاعر لكل هذا القدر من الألم النفسى والمادى، لكنه فتح على صعيد آخر الباب أمام نمط شعرى جديد حظى باستحسان وتقدير النقاد والجمهور فيما بعد.. كان من نتيجته ظهور شعراء عظام بعد ذلك..نذكر منهم على سبيل المثال: فيريلين ورامبو وأبولونير.
ولم يختلف المشهد كثيرا فى عالم الرواية.. إذ تعرض السرد الحداثى فجر ولادته إلى هجوم واستنكار شديدين من قبل النقاد وتم تجاهله وعدم الاعتراف به لسنوات طويلة.. الأمثلة كثيرة فى الحقيقة نذكر منها هنا على سبيل المثال وليس الحصر رواية عوليس للكاتب الإيرلندى جيمس جويس والتى صدرت عام ١٩٢٢.. الرواية لا تتضمن أحداثا ولا أبطالا ولا تطورات واضحة فى مجريات فصولها.. فهى ليست قصة أو ملحمة أو مسرحية أو قصيدة.. بل هى عالم بأكمله.. تراث أمة.. تاريخ شعب.. مجموعة سير لرجال ونساء.. ساحة تذخر بالصراعات والمناورات ورؤى الفلاسفة.. تبدأ من الأزمنة السحيقة ولا تنتهى إلى شىء..أو ربما تمهد للمستقبل.. للقرن الحادى والعشرين..حقاً لم تنل الرواية وقت صدورها الاستحسان والتقدير بل إنها أثارت معها السخط والهجوم والسخرية.. لكنها بمرور الزمن صارت أيقونة ذهبية للأدب الحداثى..
أما رواية المحاكمة لكاتبها التشيكى فرانز كافكا والتى نشرت بعد وفاته عام 1925 فقد أحدثت ضجة هائلة لدى صدورها..فأحداثها الكابوسية تعبر عن ذلك القدر الأسود الذى يخيم على الإنسان المعاصر..يستيقظ جوزيف ك ذات صباح ولأسباب لا تذكرها الرواية يتم اعتقاله ومقاضاته على جريمة لم تحددها الرواية.. يعيش القارئ عبر صفحات الرواية مشاركاً بطلها فى أجواء هذا الكابوس وهذا الظلم الذى وجد نفسه فى حبائله فجأة بلا أى مقدمات.. كتابات أخرى ظهرت أثناء حياة كافكا تحمل نفس الطابع الكابوسى مثل رواية المسخ لكنها لم تحظ بترحيب كبير مما دفع كافكا أن يطلب من صديق له أن يبيد مخطوطاته بعد موته ولكن الصديق نشرها. ورغم ذلك لم تسلم أعمال كافكا المنشورة من الحرق بأمر هتلر كنموذج لأدب الانحطاط. لم يكن يعلم كافكا أنه سيصبح بعد رحيله رمزا من رموز الأدب المعاصر.
قد تحمل البدايات الواعدة قدرا كبيرا من الصدمات لكنها فى النهاية تنال مكانتها المستحقة.
لمزيد من مقالات ليلى الراعى رابط دائم: