يأتى شهر أكتوبر كل عام ليحمل ذكرى وطنية عزيزة على كل مواطن مصري، وعلى كل عربى وهى ذكرى العبور ونصر السادس من أكتوبر والذى استطاعت خلاله القوات المسلحة المصرية عبور قناة السويس إلى الضفة الشرقية، وتحطيم خط بارليف الحصين فى فترة زمنية لا تتجاوز ست ساعات وفقا لما أعلنه الرئيس الراحل أنور السادات، وفى ظروف شديدة الصعوبة مما يعطى لهذا النصر أهميته الخاصة، ويسجله التاريخ فى ذاكرته تعبيرا عن عظمة مصر وشعبها وجيشها،وإذا كان الفهم الصحيح لأى حدث سياسى أو عسكرى يكون فى إطار البيئة والظروف المحيطة به سواء الدولية، أو الإقليمية، أو الداخلية فإن ذلك ينطبق أيضا على معركة أكتوبر المجيدة.
فمن حيث البيئة الدولية كان النظام الدولى الذى تواجد فى تلك الفترة (1973) هو نظام الثنائية القطبية والمتمثل فى وجود كتلتين أو قطبين كبيرين يتزعمان العالم وهما الولايات المتحدة الأمريكية والتى تزعمت الكتلة الغربية، والإتحاد السوفيتى (السابق) والذى تزعم المعسكر الشرقي، ولعل الأمر الجدير بالملاحظة فى هذا الشأن أن قادة القطبين الكبيرين قد اتفقا فى لقاء لهما على تحقيق الاسترخاء العسكرى فى منطقة الشرق الأوسط ويقصد بذلك استبعاد الخيارات العسكرية فى المنطقة، واستمرارية احتلال اسرائيل للأراضى العربية التى احتلتها فى حرب 1967.
أما من حيث الاعتبارات الإقليمية فإن إسرائيل عقب حرب 1967 رسمت لنفسها صورة ذهنية، وإعلامية بصفتها القوة المؤثرة إقليميا، والأقوى عسكريًا ولا تستطيع قوة أخرى فى المنطقة أن تؤثر عليها، أو تضغط عليها بأى شكل من أشكال الضغط لإجبارها على إعادة الأرض التى احتلتها فى عام 1967، خصوصا مع ما كانت تلقاه من دعم غير محدود من الولايات المتحدة الأمريكية، وما تحصل عليه من أحدث الأسلحة فى الترسانة العسكرية الأمريكية لضمان تفوقها عسكريا على الدول العربية المجاورة، ولذلك فقد كان خيار الحرب مستبعدا لدى الكثيرين، وذهب بعض المحللين إلى أن اجتياز المانع المائى فى قناة السويس وتحطيم خط بارليف يحتاج إلى استخدام أسلحة ذرية وهو مالا تملكه مصر ولذلك فإن احتمال الحرب غير وارد ومستحيل خصوصا أن خط بارليف كان خطا منيعا ويقارنه البعض بالخطوط العسكرية الحصينة فى تاريخ العسكرية مثل خط سجفريد الألماني، وخط ماجينو الفرنسى.
ونتيجة لهذه العوامل والمتغيرات الإقليمية والدولية، وعدم التكافؤ العسكرى فإن اندلاع الحرب وعبور قناة السويس لم يكن واردا لدى العديد من الساسة والعسكريين والمحللين، وفى هذا الإطار جاءت حرب أكتوبر بصفتها مفاجأة كبيرة لمختلف الأطراف الإقليمية والدولية، وأطلق عليها البعض وصف الزلزال واندفعت القوات المسلحة المصرية الباسلة لتعبر أكبر مانع مائى وتدمرأقوى الخطوط العسكرية، وتثبت عدم صحة كافة التوقعات والتحليلات والإتفاقات التى سبقت الحرب، ويمكن تفسير هذا الإنتصار العسكرى الكبير رغم الصعوبات التى أشرنا إليها بعدة عوامل أساسية وهي:
عنصر التدريب: فعقب هزيمة 1967 تم التركيز الشديد على التدريب ورفع مهارة وكفاءة المقاتل المصري، والقيام بمشروعات تدريبية فى مناطق مشابهة لطبيعة قناة السويس، وبتعاون الأسلحة المختلفة للقوات المسلحة .
الانتماء والولاء : اى الارتباط بالوطن، والاستعداد للتضحية بالروح والدم دفاعا عن التراب الوطني، والرغبة فى استعادة الأجزاء المحتلة عقب 1967 مهما كان الثمن، ومهما كانت التضحيات .
القدرة على الابتكار، واستخدام وسائل وأساليب غير تقليدية: ويمكن الإشارة فى ذلك إلى الأساليب التى ابتكرها سلاح المهندسين لتحطيم خط بارليف، بالإضافة إلى التوصل إلى استخدام شفرة غير تقليدية وهى اللغة النوبية التى يستحيل التوصل إلى فك رموزها لكونها لغة غير مكتوبة، مما أدى إلى ضمان السرية فى التواصل على مستوى القوات المسلحة المصرية فى مسرح العمليات.
الروح المعنوية المرتفعة وهى من العوامل الهامة التى تزيد من عناصر القوة الشاملة، وتحقق قدرة عالية فى الأداء، والتضحية من أجل تحقيق الهدف، وهى ترتبط بالعنصر البشري، والرغبة فى تحقيق النصر مهما بلغت التضحيات.
وقد تضافرت هذه العوامل مجتمعة لكى تسهم فى تحقيق نصر أكتوبر والذى يعبر عن الأداء المتميز للعسكرية المصرية، ويعكس التلاحم بين الشعب وقواته المسلحة، ويصبح رمزا لعزة مصر، وقوتها، وقدرتها على تخطى المصاعب، كما تعكس روح أكتوبر أيضا القدرة على تخطى كافة الصعوبات فى كافة المجالات، فقد أصبحت قيم أكتوبر أشبه بالرمز الذى يمكن من خلاله تحقيق النصر ومواجهة التحديات بأشكالها المختلفة التى يمكن أن تتعرض لها الدولة المصرية، كما سيظل انتصار أكتوبر دوما فى الذاكرة الوطنية كدافع هام للتقدم والإنجاز.
> أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
لمزيد من مقالات د. إكرام بدرالدين رابط دائم: