رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الدكتور الحلفاوى يشرِّح عقل الإخوان

كان نصب إقامة الخيام فى ساحات موالد قرانا ومدننا الصغيرة فنًا يجيده الكبار، حيث كانت النصبة تستلزم القماش السميك المتين- المزركش أو السادة- وتستلزم الأوتاد والحبال والأعمدة الخشبية الطويلة، والدقماق الذى هو كتلة خشبية أسطوانية الشكل، لها يد قوية، تقوم مقام المطرقة أو الشاكوش الحديد، ولأنها خشبية فإنها لا تحطم رأس الوتد الخشبى أيضًا، وكان أهلنا فى ريف بسيون ودسوق يسمونه الجكماد، وكان العمود الخشبى أسطوانيًا أيضًا له رأس مدبب نسبيًا؛ لتدخل فى عراوى «جمع عروة» سقف الخيمة، الذى كان يفرد على أرض الساحة، ثم يدخل الرجال حاملين الأعمدة «العمدان» من الأطراف؛ حتى يثبتوا رأس العمود فى العروة، والرجال فى صفين متواجهين، ويبدأ الدفع من الأطراف، وكان الحداء هو هيلا هيلا.. للنبى هيلا.. وصلِّ صل ع النبى صل.. هيلا هيلا، ومن الأطراف يبدأ النهوض بالسقف دفعة دفعة وبانتظام وهدوء، حتى تستوى الأعمدة واقفة وتتصافح وجوه الرجال، التى كانت متوارية تحت القماش، وبعدها يتم مد أضلاع الخيمة «التزلك» داير ما يدور، وتخصيص مكان للحريم يطبخن فيه وينمن، ومكان آخر لمرحاض بدائي. وقد ذكرت كل هذه التفاصيل لأقول إن الوطن خيمة، وأن أعمدته لا بد أن تبدأ من الأطراف لتبقى قوية صامدة تحمل كل الآمال والطموحات وتحول دون الطربقة! ومن الأطراف- أى من عمق الدلتا- ومن المكان نفسه الذى كانت فيه خيمتنا ورجالنا؛ جاءنى الكتاب الذى قرأته.. ثم قرأته، وكأننى أقوم بتجويد نص من نصوص أوابد الكلم. الكتاب هو عقل الإخوان، والمؤلف هو ابن القرية التى ولدت ونشأت بها- جناج مركز بسيون غربية- الدكتور محمد حسين الحلفاوي، الطبيب النابه مدير الإدارة الصحية فى بسيون, الذى حصل على جوائز للتميز الإدارى والعلمي، وبقى فى القرية يخدم أهل المركز كله، ويقرأ ويكتب ويحاضر، وبقى أيضا محصنًا ضد وباء الانخلاع الاجتماعى أو الطبقي، الذى طالما صرخ جموع مثقفى اليسار المصري- وأنا منهم- بالتحذير منه واعتباره خيانة لأهلنا، الذين تعلمنا من أموالهم وربينا لحم أكتافنا من شقائهم، وللأسف ندرة هى التى لم تنخلع من جذورها ولم تخنع لغواية المدينة الكبيرة ومتعة الشهرة والحضور مع الأكابر. وقبل أن أعرض لبعض ما فى الكتاب المهم أشير إلى أن الدكتور محمد الحلفاوى صار- مع تخصصه العلمى كطبيب- من أهم باحثى حركات الإسلام السياسي، وله مؤلفات منها: النقاب والخوارج الجدد صدر 2005، ووكلاء الوهابية فى مصر عام 2009، وألغام فى طريق المواطنة 2011، وحزب النور السلفى الوجه والقناع 2016، وجولة فى العقل السلفى 2020، وكتب فى العديد من الدوريات المصرية والعربية.

ولقد توقفت طويلًا أمام منهج الكتاب المتفرد بخاصية تجعله أقرب إلى مناظرة حية بين أطراف مختلفين وأقرب إلى أن يكون محاضرات تثقيفية وتعليمية تبسط المعقد وتحلل المركب؛ ليصل إلى عقل القارئ- مهما كان مستواه التعليمي- ثم تطعيم ذلك بالإحالة إلى المصادر والمراجع فى توثيق علمى واضح، وما من قول أو اقتباس أو رأى أو معلومة إلا وله فى الهامش إشارة للمصدر أو المرجع.. وهذا جهد مضنٍ لا يعرف قيمته وصعوبته إلا من له عقل بحثى ومن اعتصره أساتذته كى يعرف الفرق بين المتن وبين الحاشية. ثم إننى بقراءة الفصول التى بلغت ثلاثة وأربعين فصلًا مع مقدمة وخاتمة، وكل فصل اتخذ من شعار أو مقولة إخوانية عنوانًا له توقفت أمام بعضها، ومنها فصل الاستحلال والاستعلاء بالإيمان والتترس وأمرت أن أقاتل الناس والتمكين.. ولو أن المساحة هنا تطاوعنى لقدمت عرضًا وقراءة نقدية لكل عنوان من العناوين الثلاثة والأربعين. وفى مناقشة المؤلف لقضية الاستعلاء بالإيمان يعتمد على حوالى اثنى عشر مصدرًا أو مرجعًا، رغم أن المتن لم يتجاوز خمس صفحات، ويرجع الفكرة لمبتكرها سيد قطب، الذى ذهب إلى تكفير المجتمع ووجوب تشكيل الطليعة المؤمنة التى يجب عليها الانقلاب المسلح على المجتمع الجاهلي، وأن طريقة تعاملها مع ذلك المجتمع هى الاستعلاء بالإيمان والعزلة الشعورية، حتى تستكمل عدة الانقلاب المسلح، وهى فكرة محورية عند جماعات الإسلام السياسي، حيث يؤصلها أمير جماعة الصاعدون بالحق واسمه مصطفى كامل محمد بقوله: نفس المؤمن يجب أن تستقر على حالة الاستعلاء هذه إزاء كل شيء وينبغى ألا تكون حالة الاستعلاء هذه تكلفًا أو مؤقتة أو حالة اقتناع عقلى دون أن تصل للقلب وتتمكن فيه ولا بد أن تستقر حالة الاستعلاء، والذى لا يحس بذلك عليه أن يعلم أن إيمانه مدخول، وأنه بحاجة لأن يراجع نفسه. ثم يأخذ المؤلف فى تفنيد الفكرة والرد عليها مستندًا للقرآن الكريم والسنة المطهرة ولمراجع عديدة لمتخصصين من الفقهاء والدعاة، ويختتم الفصل- شأن كل الفصول- بالحديث المحدد الواضح عن مخاطرها على المجتمع وعلى الشباب خاصة، وكم وددت أن تتسع المساحة لعرض الكتاب كله كما أسلفت، إذ ما زالت جيوب الخلايا الإخوانية النائمة- ومعها جماعات السلفيين الأكثر خطورة على الأمة- تبث تلك المفاهيم المغلوطة بين الناس، حيث تتفشى الأمية الدينية والثقافية، ناهيك عن الأمية الهجائية. إن فى الأطراف المصرية- بعيدًا عن القلب القاهري، وما على غراره فى المدن الكبرى- مفكرين ومثقفين وأدباء ومهنيين قبضوا على جمر انتمائهم الاجتماعى وأصالتهم الثقافية، ويجمعون بين أعمالهم المهنية بإجادة وإخلاص وبين العطاء الذهنى الرصين. وتحية للدكتور الحلفاوى ولكل مثقفى مصر.


لمزيد من مقالات أحمد الجمال

رابط دائم: