من البدهى للغاية أن نشير إلى قيمة الجامعة ومعناها، بوصفها انتصارا للتفكير وانحيازا للعقل، وسيكون من اللازم أيضا أن نستعيد معا إحدى الأدبيات اللامعة فى مسيرة المؤسسة الأكاديمية، حين جمع شارل ديجول مستشاريه عقب خروج فرنسا محطمة من الحرب العالمية الثانية جراء ما فعله النازيون بها، حيث طرح بطل التحرير الفرنسى سؤالا واحدا مفاده : كيف حال الجامعة؟ وحين رد مستشاروه بأنها بخير قال جملته الخالدة : إذن فرنسا بخير.
وقد يصبح السؤال أحيانا عين الإجابة، وفى واقعنا الجامعى تزداد الشواغل والشجون، خاصة حين نعرف سعى جماعة الإخوان المبكر لاختراق الجامعات المصرية، والمسار التعليمى برمته، ولسنا هنا بصدد رصد تأريخى لمؤشرات هذا الاختراق وملامحه، حيث يكفى أن نتذكر القيادات الإخوانية التى انتمت للمناخ الأكاديمي، والتى لعبت دورا فى أعمال العنف والتحريض عليه فى السنوات العشر الأخيرة، على أقل تقدير، فضلا عن المرحلة الكارثية التى استخدم فيها المتطرفون أدوات البلطجة العلنية، فى السبعينيات من القرن الماضي، وتجلياتها المأساوية فى إطفاء جذوة النشاط المسرحي، وتقطيع مجلات الحائط الثقافية، ومنع الأنشطة الفنية بالقوة، وإقصاء الثقافة أو اختزالها فى تصورات قديمة، وأحادية.
لكن التغلغل هذه المرة يأخذ مسارا آخر، ناعما فى ظاهره، وشديد الخطورة فى جوهره، حيث يلعب على إحياء ما اصطلح على تسميته بناء قواعد الدعم، من خلال استخدام الصفوف الخلفية للجماعة، وأعضاء منتمين لها من العناصر غير المعروفة، أو التى تتقاطع أفكارها مع أفكار الجماعة، حول أوهام الخلافة الإخوانية، والتمكين، وجاهلية المجتمع، والمظلومية، وتكفير المخالفين، وغيرها من التصورات الخادعة التى تكشف عن لغط التفكير، وبؤسه، وداعشيته.
إن محاولة اللعب فى العقل العام للأمة المصرية، وصبغه بسمات تغاير طبيعة الروح المصرية المنفتحة على محيطها الإنسانى الواسع، والمساس بالطبائع الأصيلة التى تعزز حيوية الأمة المصرية، من خلال تغيير الوجدان العام عبر التكريس لخطاب التطرف المعلن، والمستتر، تبدو جميعها علامات تستوجب اليقظة والانتباه، لأن الجامعة هى المحطة المركزية فى بلورة وعى مغاير، وخلاق لدى الأجيال الجديدة.
وتتعدد آليات الاختراق للجامعة، بدءا من توظيف نهج التقية التى تلزم الجماعة به أبناءها فى أوقات الضعف، ويُظهر فيه عناصرها عكس ما يُبطنون، وفكرة التقية ذاتها تعنى فى جوهرها إيمان أصحابها بجاهلية الآخر، فضلا عن تكفيره، وجعله مصدرا للشرور والآثام لا لشىء إلا لأنه ليس إخوانيا، أو متعاطفا مع جماعات القتل، والتكفير، وتمزيق الأوطان.
أما الآلية الأكثر دهاء فتتمثل فى التسرب الناعم لمفاصل الجامعات؛ استغلالا لحالة السيولة اللانهائية، واعتمادا على الصيغة الشهيرة للتحالف بين الفساد والرجعية، حيث يمثل البعض جدار حماية لهؤلاء المتسربين بنعومة للفضاء الجامعي، وبما يعنى تعقد المشكلة، وامتدادها لسنوات مقبلة، وبما يستوجب فض هذا التحالف، الآن وقبل أى وقت آخر.
إن تعزيز قيم التقدم، والاستنارة، والتسامح مكونات مركزية لبناء مجتمع جامعى جديد ينهض على قيمة العقل، والتفكير النقدي، والخيال الإبداعي، فضلا عن التكريس للحريات البحثية والأكاديمية، ومساءلة الجامعات لذاتها، ومراجعتها للمعنى الذى تنطوى عليه العملية التعليمية، والمسارات البحثية، بحيث تصبح القيم الأكاديمية الرصينة، والتقاليد العلمية الراسخة، وأخلاقيات البحث العلمي، وقيمه الملهمة أدوات مركزية فى هذا السياق.
حين أنشئت الجامعة المصرية باكتتاب أهلى فى عام 1908، كان ذلك يعنى رغبة عارمة فى صفوف المصريين والنخب الوطنية فى النهوض بأحلام الجماهير، ووضع الوطن على عتبات التقدم، وبعد مرور أكثر من قرن ويزيد فإن هناك حاجة حقيقية لوجود مشروع وطنى بحثى شامل تنهض عليه الجامعات المصرية، وتنفتح فيه على الواقع الاجتماعى المحيط، وتصبح قيمة مضافة إلى متن الدولة الوطنية.
إن اهتمام الدولة المصرية بالتوسع فى إنشاء الجامعات الأهلية، والجامعات الخاصة، يعكس اهتماما توليه الدولة بالتعليم العالى فى الآونة الأخيرة، غير أن هذه الجهود تحتاج إلى وعى خلاق، يعى تحديات اللحظة الراهنة، ويدرك أن سؤال الجامعة دائما كان سؤال المستقبل، وقد بدت كلمات الرئيس السيسى فى المنتدى العالمى للتعليم العالى والبحث العلمى الذى عقد فى مصر منذ شهور دالة فى هذا المسار حين دعا إلى ضرورة تحرير التعليم من قبضة الافكار المتطرفة.
إن إشكالية التطرف تهدد العقل الحر، وتقوض من البنيان المعرفى والبحثى والتعليمي، وهذا ما يجب أن نحذر منه، وننتبه إليه فى الآن نفسه.
لمزيد من مقالات د. يسرى عبدالله رابط دائم: