طلال فيصل: روائى مصرى شاب صدرت له من قبل ثلاث روايات، كان من دواعى سرورى أن قرأت ثالثتها (بعنوان «بليغ» وصدرت عام ٢٠١٦)، بل وكتبت عنها فى هذه المساحة الأسبوعية مقالات أربعا، لفرط ما يحتشد فى تلك الرواية، القصيرة نسبياً، من غِنىً فنى استغرقت محاولة التعبير عنه أربع مقالات كحد أدنى.
والآن تصدر روايته الرابعة بعنوان «الغابة والقفص»، وهى عمل روائى مُركّب يتكوّن من ثمانية فصول يتمتع كل منها باستقلال نسبىّ، لكن يربط بينها جميعاً أنها حكايات لأشخاص يعانون اضطرابا نفسيا دفع بهم لعيادة طبيب نفسانىّ. والفصول السبعة الأولى مستوحاة مما استمعه ذلك الطبيب من مواجع هؤلاء؛ أمّا الفصل الثامن فهو تسجيل لمواجع الطبيب نفسه: وأولها الضجر، أما ثانيها فهو ذلك الثقل الروحى الذى صنعه تراكم أوجاع الناس فى وجدانه صباح مساء كل يوم. فالصباح للفقراء فى المستشفى العام شبه المجانى، حيث يستمع الطبيب مضطراً لما يصنعه البؤس والجهل والمرض بروح الإنسان، أمّا فى المساء، فى عيادته الخاصة، فينصت، مبتسماً تلك البسمة المهنية المرسومة، لهموم المترفين وشكوكهم ومخاوفهم، وهو يخطف نظرة لساعته كل حين، ليرى موقع حكاياتهم وفضفضاتهم من الوقت المحدد المتاح لكل مريض, وفى نفسه - هو الحكيم المنتظر منه الغوث - يتصارع الضجر مع العطف الإنسانى, مع سخريته من عجزه الشخصى عن صنع المعجزات، عن تخليص مرضاه مما هو فى صميم جوهر الحياة من شقاء وألم. هذه معان نطالعها فى الفصل الثامن والأخير من العمل، الخاتمة التى أعطاها الكاتب اسم (حدّث المعالج قال). أما الفصول السبعة التى تحكى عن أوجاع سبع حالات مختارة من بين مرضى ذلك الطبيب- والمستوحاة مما أسرَّ به هؤلاء للحكيم الروحانى- فتبدأ بفصل عنوانه: الطريق إلى البيت. ويحتوى هذا الفصل - ويا للعجب - على ما لم يقله المريض لطبيبه؛ بل قرأه الأخير - بواقع خبرته - فى عينى مريضه، وهو يحكى له - ساخراً متحدياً - حكاية مختلقة عن طفولته وأبيه وأمه؛ حكاية سخيفة كشف زيفها الطبيب المحنك، وأورد بدلاً منها فى ذلك الفصل ما استنتجه - وهو يستمع لهراء مريضه - حول حادثة حاسمة شكلت وجدانه بالفعل فى طفولته المبكرة. (وقبل أن نستطرد، يجب هنا الإشارة أن شخصية الطبيب النفسى فى هذا العمل تقترب إلى حد كبير من شخصية وخبرات الكاتب، فطلال فيصل طبيب تخصص فى الطب النفسى ومارسه؛ وبناءً على ذلك، يمكننا القول إن (الغابة والقفص) هى وليدة الخيال الروائى والخبرة الحياتية والمهنية لكاتب هو طبيب أيضاً). نعود للفصل الأول - الطريق إلى البيت - الذى يصف حادثة طالما هزت معظمنا فى الطفولة, ذلك الهلع الذى لابد وأن أصاب كثيراً منا حين نكتشف فجأة أننا ضللنا طريق البيت. فى هذه الذكرى التى يتخيلها الروائى الطبيب، وهو يستمع لمريضه المتمرد يختلق حكاية بلهاء نكاية فى طبيب يرفضه، يقرأ ذلك الطبيب فى عينى الساخر غرامه الفرويدى القديم بأمه، وضيقه بأبيه الذى ينافسه فى حبها, ثم تلك الطمأنينة النهائية التى يحدثها ظهور الأب بعد ساعة من التيه، فى مكان قريب من المنزل يراه الطفل التائه بعيداً قصياً وفضاءً لا نهائياً.
ومن أكثر حكايات الكتاب طرافة، تلك التى يرويها الفصل السابع، وأعطت العمل كله عنوانه، حكاية الغابة والقفص, عن قرد انتُزِع من حضن الغابة تحت تأثير فتنة شقراء أغرته بحسنها وببعض حبات الجوز واللوز والبندق.. وفجأة شعر بوخزة إبرة خدرته فغاب عن الوعى، ليصحو فى صندوق حديدى محكم، وسط صراخ رهط من القردة، فى مركب يأخذه البحر إلى مقصد مجهول.. سنعرفه حين نستكمل حديثنا بإذن الله فى المقالة القادمة.
لمزيد من مقالات بهاء جاهين رابط دائم: