تمر هذه الأيام مائة عام على ميلاد خالد محيى الدين، أحد قادة تنظيم الضباط الأحرار وثورة 23 يوليو. بعد سبعين عاما على ثورة يوليو لم يعد أغلب الناس يتذكرون سوى قليل من قادتها. هناك طبعا الرؤساء جمال عبد الناصر وأنور السادات ومحمد نجيب، وكلهم احتل أعلى منصب فى الدولة ولو لوقت قصير. هناك أيضا عبد الحكيم عامر، الذى يتذكره الناس بسبب إقحامه الجيش فى الشئون الداخلية، ومسئوليته عن هزيمة يونيو. لو أن الناس يتذكرون آخرين من قادة يوليو فأظن أن خالد محيى الدين يأتى فى مقدمتهم، رغم أنه لم يشغل منصبا رسميا فى الصفوف المتقدمة بعد عام 1954. قاد خالد محيى الدين فريق الأقلية فى الضباط الأحرار، وهو الفريق الذى حاول الجمع بين الثورة والديمقراطية، فيتأسس حكم دستورى، وتتنافس الأحزاب فى انتخابات نزيهة، فيما يجرى تنفيذ برامج تنمية وإصلاح اجتماعى عميق يرقى إلى مستوى التغيير الثوري. ماذا لو انتصر الجناح الذى مثله خالد محيى الدين، هل كان ذلك ليغير المسار والمصير الذى عشناه خلال السبعين عاما الماضية؟ وهل كان هذا كافيا لبناء حياة ديمقراطية سليمة، ذلك الهدف السادس المراوغ لثورة يوليو، والذى مازلنا بعد سبعين عاما نبحث عن طريقة لتحقيقه.
السبعون عاما الماضية من تاريخ مصر ليست نتيجة لانتصار ثورة يوليو، بقدر ما هى نتيجة لانتصار جناح الأغلبية بين الضباط بقيادة جمال عبد الناصر، على جناح الأقلية بقيادة خالد محيى الدين، فى المواجهة الفاصلة التى جرت بين الجناحين فى مارس 1954. نشر خالد محيى الدين مذكراته فى تسعينيات القرن الماضى، وأظنها أفضل رواية شخصية لما حدث فى تلك الفترة. كان للضباط الأحرار توجهات سياسية مختلفة، وكانت لهم صلات بتيارات وجماعات سياسية متنوعة. كان للضباط صلات بكل تنظيمات الرفض الاجتماعى والسياسى التى نشطت فى هذه الفترة، خاصة الإخوان والشيوعيين والاشتراكيين الوطنيين من جماعة مصر الفتاة بقيادة أحمد حسين. لكل من هذه التنظيمات عقيدته الخاصة، ولا يوجد بينها من اعتبر الديمقراطية والحكم الدستورى قضيته الأولى. كان الضباط جميعا من الوطنيين المخلصين، لكن لم يكن لأى منهم صلة بالوفد، أهم مدافع عن الحكم الدستورى منذ ثورة 1919. كان الضباط الأحرار منفتحين على كل جماعات الرفض، فيما اتسم موقفهم من الوفد، صاحب الشعبية الأكبر فى تلك المرحلة، بالفتور.
يحكى خالد محيى الدين فى مذكراته عن صدمته عندما وجد فقهاء دستوريين كبارا، محسوبين على الدستور والديمقراطية والليبرالية، يقدمون للضباط الشبان حيلا وحلولا تلتف حول الدستور وتشجع النزعات السلطوية، وهو ما تورط فيه فقهاء كبار، من أمثال عبد الرزاق السنهورى وسليمان حافظ وآخرين. مواقف محمد نجيب تبدلت، فكان مع الديمقراطية مرة، وضدها مرة أخرى، تبعا لتغير تحالفاته وتقديره لمصلحته. وقف الإخوان ضد الديمقراطية، لكنهم تظاهروا مطالبين بها بعد أن تدهورت علاقتهم بالضباط، وفقدوا الحظوة التى أوهمتهم بقرب وصولهم إلى السلطة.
كان أهل الريف مستبشرين ومؤيدين للثورة بسبب الإصلاح الزراعى، والتوسع فى إنشاء المدارس وتقديم الخدمات فى الريف، ولا يبدو أن الفلاحين كانوا يتطلعون لانتخابات تصل بالباشوات وممثلى الأحزاب القديمة مرة أخرى إلى السلطة. دار الصراع فى الأساس بين أهل المدن من الطبقات الوسطى، وفى أوساط هؤلاء لم يكن للديمقراطية كثيرون من الأنصار المتحمسين. حكى خالد محيى الدين فى مذكراته عن العزلة التى شعر بها بين أهله وأقاربه بسبب مواقفه المؤيدة للديمقراطية. وحدهم الشيوعيون والمثقفون الإصلاحيون من جناح الطليعة الوفدية هم من التزموا الدفاع عن الديمقراطية على طول الخط، لكن هؤلاء لم يكونوا سوى أقلية صغيرة انهزمت فى النهاية.
تبين مذكرات خالد محيى الدين أن الديمقراطية لم تكن اختيارا يتمتع بشعبية كافية فى تلك المرحلة، وأن نظام الحكم الذى أنشأته ثورة يوليو لم يكن اختيارا خاصا بأى شخص واحد منفرد، بقدر ما كان اختيارا لأغلبية الناس. بالتأكيد كان لتفضيلات الرئيس جمال عبد الناصر أثر كبير فى تشكيل النظام السياسى لثورة يوليو، لكن حتى عبد الناصر لم يكن لينجح فى تسييد رؤيته لولا تماشيها مع السياق السياسى والاجتماعى والثقافى السائد فى تلك المرحلة.
الديمقراطية معروفة، وكذلك السلطوية؛ لكن الاختيار الديمقراطى الثورى الذى انحاز له خالد محيى الدين كان هجينا غامضا، لم يتم تطويره بشكل كاف، فلم نعرف بالضبط الطريقة التى يمكن بها للنظام أن يكون ديمقراطيا وثوريا فى الوقت نفسه. حسب مذكرات خالد محيى الدين، فإن المؤشرات رجحت فوز الأحزاب القديمة فى انتخابات يتم تنظيمها بعد الثورة، فى مواجهة حزب الثورة الذى كان مزمعا تأسيسه؛ولم نعرف بالضبط كيف كان يمكن إجبار الأحزاب القديمة الفائزة لتنفيذ برنامج حزب الثوار المهزوم.
ربما كان الحل فى نظام الجيش الحارس، وهو النظام الذى طبقه القائد التركى مصطفى كمال أتاتورك بعد ثورته التى ألغت الخلافة والسلطنة العثمانية. استبعد أتاتورك الأفكار القديمة،وأسس حزبا تبنى أفكار الثورة، وشجع أنصار الإصلاح والتحديث لتأسيس أحزاب تنافست فى انتخابات نزيهة، ووقف الجيش على البعد يراقب أداء الأحزاب واستقرار النظام، وتدخل كلما تهدد استقرار البلاد، أو كان هناك انحراف جسيم عن المبادئ التى قامت عليها الدولة التركية الحديثة. لم يكن هذا حلا مثاليا بكل تأكيد، لكن المآل التاريخى يبين أن الجيش الحارس رسخ فى تركيا مبادئ ومؤسسات وتقاليد سياسية لم يكن لها أن تترسخ بطريقة أخرى.
لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد رابط دائم: