أسفرت الانتخابات التشريعية الفرنسية التى جرت ما بين الثانى عشر والثامن عشر من شهر يونيو 2022، عن معادلة سياسية صعبة وغير مريحة للرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون فى ولايته الثانية، حيث لم يحصل على الأغلبية المطلقة من مقاعد الجمعية الوطنية، والتى تمكنه من تشكيل حكومة مؤيدة لسياساته، ومؤيدة للتشريعات والقرارات التى يتخذها، هذه الأغلبية المطلقة تقدر بـ 289، عضوا فى الجمعية الوطنية من مجموع عدد الأعضاء البالغ 577 عضوا، فى حين حصل مؤيدوه على 245 مقعداً، وأصبح اليسار الراديكالى المتحالف مع أحزاب اليسار والبيئة القوة الثانية فى الجمعية الوطنية، بعدد مقاعد يبلغ 142 مقعداً، وأصبح اليمين المتطرف القوة الثالثة بعدد مقاعد 89 مقعدا وبعد ذلك يأتى اليمين التقليدى أو البرلماني بـ 64 مقعداً.
يرى الكثير من المحللين أن الرئيس الفرنسي يتحمل قدرا من المسئولية عن هذه النتيجة؛ فهو لم يمنح هذه الانتخابات الأهمية اللازمة وافتقدت الحملة الانتخابية التشريعية حضور الرئيس بما له من تأثير وفاعلية، لدعم مرشحيه، وأنه انشغل بزيارات خارجية لرومانيا تخص تداعيات الحرب الأوكرانية، من ناحية ثانية يرى بعض المحللين أن المواطن الفرنسى أراد من خلال النتيجة توصيل رسالة إلى الرئيس، بأنهم لن يمنحوه أغلبية مطلقة وأنهم سيفرضون عليه قيودا ومراقبة تحول دون انفراده بسن التشريعات والقوانين وتشكيل حكومة تنفذ سياساته دون اعتراض.
بموجب هذه النتائج حظى ماكرون بالأغلبية النسبية فى الجمعية الوطنية كبديل للأغلبية المطلقة، وهذه الأغلبية النسبية تفتح الباب لاحتمالات شتى، من بينها تشكيل تحالف أو ائتلاف يدعم الحكومة من أطياف اليسار أو اليمين أو احتمال المساومة والتفاوض حول كل قانون تريد الحكومة تشريعه فى الجمعية الوطنية، أو كما تطرق البعض تشكيل حكومة وحدة وطنية وهو ما استبعده الكثيرون، وأخيرا وليس آخرا لجوء الرئيس لحل الجمعية الوطنية وإجراء انتخابات جديدة وفقا لصلاحياته الدستورية. فى جميع الأحوال فإن بريق الماكرونية قد انكسر على مسرح الانتخابات التشريعية، فبعد أن صعد ماكرون فى ولايته الأولى من خلال طريق تجاوز القطبية الحزبية الثنائية التقليدية بين اليمين واليسار من خلال حركة إلى الأمام وحصل على مقعد الرئاسة وبعدها حصل على أغلبية مطلقة من مقاعد الجمعية الوطنية بلغت 300 مقعد، تشهد ولايته الثانية معضلة جديدة فى ظل الأغلبية النسبية فى الانتخابات التشريعية 2022.
الموقف الذى يواجهه الرئيس الفرنسى الآن ليس جديدا فى تاريخ الجمهورية الخامسة الفرنسية التى تأسست عام 1958 ومنذ إقرار التعديل الخاص بانتخاب رئيس الجمهورية فى اقتراع مباشر من المواطنين، نظام هذه الجمهورية المزدوج أى الرئاسى والبرلمانى فى وقت واحد والذى بموجبه يضمن الرئيس المنتخب الحصول على أغلبية مقاعد الجمعية الوطنية من خلال الحزب الذى ينتمى إليه ويتمكن من تشكيل حكومة تؤيده، لم يطبق فى الواقع إلا من عام 1962 إلى عام 1986، فى عهد الزعيم الراحل شارل ديجول وخلفه جورج بومبيدو وفاليرى جيسكار ديستان”، ويمكن إضافة فرانسوا ميتران خلال السنوات الخمس الأولى من ولايته الأولى، تلا هذا التاريخ زمن الاضطرابات من عام 1986 حتى عام 2002، ففى مقر الحكومة يستقر جاك شيراك كرئيس وزراء ينتمى لليمين الجمهورى (1986-1988) وبعده إدوارد بلادير (1993-1995) مستندين فى ذلك إلى الأغلبية اليمينية فى البرلمان فى حين أن الرئيس كان اشتراكيا. ثم بعد ذلك انعكس الوضع وأصبح ليونيل جوسبان رئيسا للحكومة (1997-2002) فى حين أن الرئيس كان ينتمى إلى اليمين، ودلالة هذه التبدلات فى الحكومة والرئاسة والتعايش بينهما، أن نظام الجمهورية الخامسة يمتلك القدرة على التعامل مع هذه التطورات واحتوائها والتأقلم مع هذه التناقضات. قانون الضرورة يفرض على الرئيس التأقلم مع متطلباته، وفى خطابه منذ أيام أشار ماكرون إلى ضرورة التأقلم مع هذا الواقع الجديد، وأن تعمل الحكومة وتقر القوانين المطلوبة والمختلف عليها بطريقة تتوافق مع تركيبة الجمعية الوطنية وتجنب الانقسام وشلل السلطة التنفيذية.
أمام الرئيس ومعاونيه اختيارات مختلفة من بينها الانحياز إلى اليمين أو اليسار، ولكن ليس أى يمين، بل اليمين البرلمانى التقليدى أو اليسار التقليدى ممثلان فى أحزابهما، وكذلك إلى الأعضاء المنتمين للبيئة أو اليسار والذين لا يستطيعون بحكم القانون واللوائح تشكيل مجموعات برلمانية مستقلة يمكن فى هذه الحالة استقطاب بعض أعضاء اليمين الجمهورى من مختلف مكونات اليمين أو غيرهم من اليسار وأطيافه المختلفة لاستكمال النصاب القانونى لتمرير القوانين واستقرار الحكومة. فى جميع الأحوال فإن المقاربة الرئاسية حتى الآن تستبعد حل الجمعية الوطنية، وحكومة الوحدة الوطنية، وتؤكد على ضرورة التعامل مع الموقف الجديد وتشكيل حكومة مستقرة وتجنب تعميق الانقسام وتعطيل جناح السلطة التنفيذية وهو ما يتوقف على المشاورات والحوار مع القوى السياسية المختلفة الممثلة فى الجمعية الوطنية والتى رفضت حتى الآن منح الرئيس شيكا على بياض كما رفضت تأييده على قاعدة استمرار مشروعه الإصلاحى. رسالة المواطنين الفرنسيين فى هذه الانتخابات التشريعية هى وقف اندفاعة الماكرونية النيوليبرالية وتقييدها من خلال الجمعية الوطنية وتجديد العلاقة بين المواطن والمؤسسات وأخذ المشاركة من قبل المواطنين وممثليهم فى الاعتبار عند اتخاذ القرارات، والسبيل إلى ذلك هو منح الرئيس أغلبية نسبية بدلا من الأغلبية المطلقة، بل وجعل الرئاسة نسبية من خلال الدفع بقوى المعارضة إلى الجمعية الوطنية ودمج طموحاتهم فى التغيير وتحسين أوضاعهم فى المؤسسات التمثيلية القادرة على إسماع صوتهم فى دوائر السلطة التنفيذية.
لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد رابط دائم: