رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

سياسة ما بعد الحقيقة

عالم الأحداث الزائفة، وسلطة الصورة الفوتوغرافية، والمرئية يعرفه من عاش فى قلب صالات التحرير فى بعض الصحف الكبرى عالميًا، وكان يمتلك من الروح النقدية، والقدرة على فحص الأخبار، والبحث فيما وراءها، والقدرة على تحليل الخبر، والمقابلة، والتحقيق، ورسم الكاريكاتير فى عالم تسيطر من خلاله الشركات الكبرى ثم المتعدية للجنسيات على التوجيه غير المباشر، والمباشر على بعض السياسات التحريرية، وهذا التوجيه مرجعه مصالح هذه الشركات داخل الولايات المتحدة، وأوروبا، والعالم فى ظل توحيد الأسواق فعليًا وقسريا مع العولمة وما بعدها! كانت صناعة الأحداث الزائفة، والأخبار الكاذبة جزءا من تأثير أجهزة الاستخبارات فى أثناء الحرب الباردة، وما بعدها من أجل التأثير فى السلوك السياسى، وصناعة القرارات فى بعض المراكز السياسية المؤثرة فى النظام الدولى، وأيضا للتأثير على سياسات الدول الآخذة فى النمو والمتخلفة فى جنوب العالم! فى صحافة الدول الشمولية والتسلطية، كانت صناعة الأكاذيب، والأخبار الزائفة جزءا من عمل الصحافة الورقية، وأجهزة الإعلام المسموعة والمرئية، وتوظيفها فى تمجيد الحاكم وحكمته ونظام حكمه، وإنجازاته الزائفة. ومن هنا كانت السطحية والمبالغة فى كتابات غالب الصحفيين، جزءًا من ضعف المهنية، والصحافة، التى سمحت لهم بترويج التفاهة، والأكاذيب، والانجازات الزائفة. هذا لا يعنى أن الصحف الأمريكية والأوروبية الكبرى كانت تفتقد للمهنية والاحترافية، وممارسة دورها الرقابى على الإدارات السياسية وسلطات، وأجهزة الدولة دفاعًا عن الحريات العامة والفردية، بل لعبت ولا تزال هذا الدور باقتدار، واستطاعت أن تكشف من الأسرار والأخبار الحقيقية، ما أثر على أداء هذه السلطات والأجهزة، ناهيك عن دورها البارز فى كشف فضيحة ووترجيت ذائعة الصيت، والإطاحة بالرئيس نيكسون.

هذا الوجه المُضىء للصحافة الأمريكية الكبرى، لا يعنى براءة بعضها، والأحرى غالبها من بث وكتابة الأخبار الزائفة، وبعض الأكاذيب على نحو ما أبرزه دانيال بورستين فى كتابة الصورة والأحداث الزائفة –من ترجمة سهير صبرى المتقنة والدقيقة-، وذلك لأنه استطاع أن يتابع بعين فاحصة، دور بعض الصحف، والصحفيين فى تشكيل ذهنية وروح التوقعات المفرطة، والإثارة لدى جماعات القراء، ومتلقى أخبار التلفزات. يذكر بورستين أن الأمر لم يقتصر على الصحف فقط فى تحليل الولع الأمريكى بالأحداث الزائفة، وإنما أيضا فى سجل الكونجرس فى عام ١٨٧٣كان تقريرا ظاهريا، فقط ، عما يجرى داخل الكونجرس لايربو أن يكون مشابهة شاحبة لما قيل بالفعل هناك. ورغم الاحتجاجات الواهية التى تظهر من حين إلى آخر، ظل سجلنا "عبارة عن منوعات هائلة تدفن فيها الوقائع الفعلية تحت خطب لم تلق، وتلال مما لم يقرأ وما لا يصلح للقراءة (ص 38). امتد ذلك إلى النشرات الصحفية –منذ عام 1907- والتى يصفها بورستين بأنها عبارة عن أخبار مطهوة مسبقًا، ويفترض الاحتفاظ بها لوقت الحاجة (ص39). حيث بدا أن سجل الأخبار الموثوق به لما يحدث أو يقال، أصبح هو ما يقدم مسبقًا. ويصبح المزيد والمزيد من الأحداث الإخبارية عروضًا درامية تمثل فيها الرجال فى الأخبار السيناريو المُعد لهم بدرجة أو بأخرى من الإتقان. وتكتسب القصة المُعدة للنشر مستقبلًا درجة من الموثوقية تتنافس مع الأحداث الفعلية فى التاريخ المحدد سلفًا. من هنا كان أبرز السياسيين الأمريكان هم البارعين فى استخدام الصحافة، وغيرها من الوسائل لخلق أحداث زائفة (ص40). من فرانكلين روزفيلت إلى رواج السيناتور مكارثى الذى استطاع خلق أحداث زائفة بمساعدة بعض الصحفيين المقربين له، وأيضا أعداؤه من الوسط الصحفى، وكذلك الأمر بخصوص الجنرال الأمريكى دوجلاس ماك أرثر" من خلال رحلة انتصار فى أنحاء الولايات المتحدة، بعد أن أعفاه الرئيس ترومان من القيادة فى الشرق الأقصى فى 11 أبريل 1951 فى أثناء الحرب الكورية!. من قلب تصاعد الأحداث الزائفة حدث الخلط بين أدوارنا كفاعلين وجمهور. ثمة مثال يطرحه بورستين لهذا التدخل الجديد أنذاك بين الذات والموضوع ، بين التاريخ والمؤرخ، بين الفاعل والصحفى، وهو ما يطلق عليه تسريب الأخبار أصبح التسريب الآن وفق بورستين تقليدًا مّهما وراسخًا فى السياسة الأمريكية، ويرى أنه فى الواقع إحدى الأدوات الأساسية لنقل المعلومات من المسئولين إلى الشعب (ص 52)، ويرى أنه الزيف الجديد فى عالم المواطن، وأن تسريب الأخبار هو حدث زائف بامتياز (ص53) .لا شك أن فيضان الأحداث والأخبار الكاذبة، والتسريبات، كانت ولا تزال تلعب على التناقضات داخل الحياة السياسية الأمريكية، وبين الإدارات السياسية –أيا كان الحزب الحاكم-، وبين أجهزة الدولة، وسلطاتها، وتوظيف الجميع سلاح التسريبات فى مواجهة بعضهم بعضًا، للتأثير على مستهلكى الصحف والمجلات، ثم التلفزات، والإذاعات ! الصراعات السياسية، وراءها، ومعها صراعات المصالح للشركات الضخمة، وتوجهاتها ودعمها للأحزاب والسياسيين الأمريكيين. لا شك أن تحليلات بورستين العميقة، والنقدية مهمة فى الكشف عن الجوانب الأخرى. فى عالم الصحف والمجلات والتلفزات والإذاعات فى أمريكا، ودورها فى نشر الأحداث الزائفة والأكاذيب، ثمة خلط شاع بعضه بين الأخبار والبروباجندا- وفق بورستين - لدى بعض الصحف الأمريكية، وهو الأمر الذى يستهدف مصالح فيما وراء هذا الخلط، وأثر سلبيا على الممارسة المهنية والاحترافية. لا شك أن حالة الأخبار والأحداث الزائفة، والأخبار الكاذبة، والخلط بين البروباجندا –الدعاية-، والأخبار ليست فقط حالة أمريكية، وإنما امتدت إلى الصحافة الأوروبية البريطانية والفرنسية إلى حد ما، وذلك لثقل الصحف الأمريكية، وتأثيرها فى العالم. ونموذجا للتحول لسياسة إلى» ما بعد الحقيقة.


لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح

رابط دائم: