هو أحد سادة التفاصيل، أنفق عمرا فى السعى وراءها، وأجاد استكشافها وتوظيفها، فضمنت له التفرد والخلود. يحيى تادرس، صاحب التحفة الإعلامية والثقافية «حكاوى القهاوي»، رائد الإعداد التليفزيونى والسيناريست السينمائى الذى وافته المنية قبل أيام. غادر الحياة وقد حقق كثيرا من مبتغاه، وإن كان حتما غادر وكان أمله تحقيق المزيد، فهكذا هم المفتنون بالتفاصيل لا يملون أو يتعبون أبدا.
جمعتنا مكالمتنا، كان فيهما الأستاذ الباحث وراء تفاصيل بعض الموضوعات التى نشرتها الصفحة الثانية بالأهرام، والتى أعمل ضمن فريقها. أما أنا فكنت استمع بانتباه كامل لكل كلمة يقولها ومنبهرة بأدبه الجم وتواضعه العظيم ومعارفه الموسوعية. كان يسعى وراء مزيد من التفاصيل، فهى التى حققت له الهدف الذى صاحبه فى رحلة القطار قادما إلى القاهرة من مسقط رأسه فى بنى سويف.
فمنذ لحظة خروجه الأول من بوابة محطة رمسيس، أدرك ضرورة أن يجد لنفسه مسارا يميزه عن الجحافل التى تموج بها المحطة وما حولها من طرقات القاهرة العظمى. كان بالفعل يملك سنوات طويلة من القراءات المتنوعة فى بلاده الجنوبية. وزاد على ذلك بدراسة علم النفس، ثم السعى وراء أسرار العمل التليفزيونى ودراسة السيناريو تحت لواء المخرج الكبير صلاح أبو سيف.
ولأن أهل التفاصيل يخلقون من كل تحد، فرصة، فكان تكليفه كمسئول عن توثيق معارك حرب أكتوبر ١٩٧٣ بوابة رحبة للمرحلة التالية فى مسيرته. تعرف خلالها على عظام العمل السينمائى مثل شادى عبد السلام، الذين رافقوه لأيام طوال بين ثكنات جنودنا ووسط جموع الأسرى من المعتدين المهزومين . وهناك التقى وجها لوجه مع قلق الإنسان وإرادته، مع نجاحه وهزيمته، مع الفارق الفاتن بين صورة النصر الكبرى بعظمتها، وتفاصيل التضحيات التى تكمن وراءها بإنسانيتها ومعجزاتها.
بعدها التقى تادرس الإعلامية الكبيرة أمانى ناشد، وعلى يديها وفى ساحات التصوير لا المكاتب المغلقة تعلم أن يكون معدا تليفزيونيا وألا يقبل لعينيه بالمألوف، فيبحث عن المنسى والمجهول. وكانت مرحلة أمانى ناشد وحلقات «استوديو ٩» بداية وقوعه فى حب التحقيق التليفزيونى. والذى بلغ معه ذروة الحب يوم بدأ حلقات «حكاوى القهاوي» مع الراحلة المتميزة سامية الإتربى، ويوم نظم لها السطور الزجلية الأشهر: «القهوة عالم بحاله قايم، فيه اللى قاعد جنب اللى نايم» فباتت أشهر المقدمات التليفزيونية.
وكان يكفيه «حكاوى القهاوى» بعوالمه الموازية لمصر الرسمية وقصصه الإنسانية وطرائفه المبهرة، ما لم يقدم غيره. ولكنه قدم الكثير قبله وبعده ومعها فيلمان سينمائيان، وتجربة تؤكد أن المحبة والنجاح دوما من نصيب التفاصيل التى قد تمر على البعض مرور الكرام، ولكنها لم تمر على يحيى تادرس.
لمزيد من مقالات يسرا الشرقاوى رابط دائم: