يبدو أن ثمة فهما مغلوطا لعلاقة الأديان والحياة يسود فى الواقع الفعلى، والرقمى معًا، يتمثل فى أن الدين –أيا كان- لابد أن يهيمن على الحياة، وأنظمتها وتفاصيلها، ووقائعها اليومية كاملة، ويحال أفعال الحياة كلها التى لا حصر لها إلى التأويل الدينى الوضعى. هذا الفهم الذى يتبناه غالبُ رجال الدين، وتوظفه السلطات السياسية لصالحها، ينطوى على مفهوم سلطوى للدين، يحاول من خلاله بعضهم أن يبنى سلطته ومكانته على ضمائر وعقول وأرواح الجموع داخل المجتمع، مستغلا الدين فى مصالح اجتماعية وسياسية لا شبهة حولها، مهما يحاول بعضهم أن يرتدى أقنعة وعلامات الكهانة، والتمايز عن الناس أيا كانت انتماءاتهم ومصالحهم الاجتماعية، التي يتم إدراكهم لها على أنها موضوع للسيطرة والخضوع، والامتثال لخطابات رجال الدين آيا كانوا! وأنهم ناقصو عقل وإيمان، ومن ثم هم موضوع مستمر للتوجيه! هذا الفهم السلطوى للدين وقيمه وعقائده، ومعاييره مرجعه مصالح رجال الدين التابعين للسلطة فى الاستمرار بوصفهم سلطة رمزية، وتوجيهية للمجتمع، والحياة المتغيرة. انطلاقا من هذا الفهم للدور الوظيفى لرجال الدين بوصفهم سلطة، يعود إلى الأنظمة الشمولية والتسلطية السائدة عربيًا، والتى توظف الدين، و”طبقة رجال الدين” التابعة فى وصم مخالفيها باللاتدين والالحاد!، وفى التبرير الدينى للسلطة وقراراتها وسياساتها أيا كانت تناقضاتها، وتضاربها، بوصفها شرعية دينيًا، وتغييب الوعى شبه الجمعى للجمهور!
من هنا أشاع رجال الدين فى غالبهم، ومعهم الجماعات الإسلامية السياسية، والسلفية، نمطا من الفهم السلطوى للدين، يناقض الحداثة السياسية، وقيمها المؤسسة، باعتبار أن الحريات العامة والشخصية ليست تعبيرًا عن الإرادة الفردية والجماعية للمواطنين، ويحاولون نفيها فى الحياة العامة من خلال مفاهيم الإجماع، والنطق باسم المؤمنين، والدين معًا! من هنا يبدو رهابُ الخوف من الحرية الفردية، والحريات العامة، يسود السلطة، ورجال الدين التابعين لها فى عالمنا العربى، لأن الحريات العامة والفردية تفتح فضاءات الحياة امام حرية التفكير، والتعبير تجاه السلطتين السياسية، والدينية التابعة، وإمكانية تغيير السلطة، وأساسها الاجتماعى، ومساءلتها مع المؤسسة الدينية الرسمية، والجماعات التى تدعى النطق باسم الدين وعقائده ومعاييره وطقوسه، بوصفهم نوابا عن السماء! من هنا دارت تفسيرات وتأويلات غالبهم للحرية عموما، والحريات السياسية خصوصا، والفردية من خلال القيود اللاهوتية أو الفقهية السلطوية أى حريات شكلية تحت سلطتهم والقيود التى يفرضونها على الحرية باسم تأويلاتهم وتفسيراتهم الوضعية والبشرية بامتيازباسم الدين، وذلك لكى يضعوا حريات الفكر والتدين والاعتقاد، داخل سياجات مغلقة من السرديات التأويلية الموروثة تاريخيًا، ويعيدون إنتاجها دون نقض، أو مراجعة، أو حتى تأويلات معاصرة.
لا شك أن هذا الإدراك السلطوى للدين ووظائفه فى الحياة العامة والفردية، مرجعه محاولة فرض هيمنتهم الرمزية على الإنسان، والحياة المتغيرة، والمتحولة من خلال التحولات الفكرية، والاقتصادية، والاجتماعية، وهو أمر بالغ الصعوبة، ولا يمكن السيطرة على التغير الاجتماعى والسياسى والتقنى والعلمي فى عالمنا، لأن وقائع وتفاصيل الحياة، والاكتشافات العلمية، والتقنية، تسهم فى تحولات القيم المتغيرة، وأيضًا فى شروط الحياة الإنسانية، وفى أنماط التفكير السائدة فى المجتمع. من هنا يقع التناقض بين الفكر الدينى الوضعى السائد، وجموده، وتطرفه وبين الحياة المتغيرة التى تتجاوز أنماط الفكر الدينى التاريخى القديم الموروث، الذى يعاد حفظه، وتلاوته، على الرغم من أن غالب المتون اللاهوتية والفقهية والكلامية والإفتائية الموروثة، يمكن استعادتها بلمسة أصبع على الهاتف المحمول والألواح الرقمية، ومن ثم لا يحتاج الفرد المؤمن أيا كان إلى رجل الدين الحافظ لبعض من نثارات وعناصرهذه المتون المؤسسة للاهوت، والفقه، وتفسيراتهم! لا شك أن هذه التناقضات بين الفكر الدينى الوضعى، وبين تحولات الحياة وتدافعاتها وتفاصيلها، ومشاكلها، وقيمها الاجتماعية المتغيرة، أدت إلى بروز ظواهر اللاإدارية، واللاتدين لعدم قدرة العقل الدينى النقلى على مواجهة تحديات التغير الاجتماعى والثقافى فى عالمنا العربى، والأسئلة المتجددة التى يطرحها على الجمهور! مع تطور الرقمنة ووسائل التواصل الاجتماعى، وفى ظل فوائض التدين الشعبى، والنقلى المحافظ، وصعود عصر العاديين الرقمى، برزت ظاهرة المحتسب الدينى الرقمى، من الواقع الفعلى لرجال الدين، والدعاة السلفيين، وقواعد، وقادة الجماعات الدينية السياسية، والسلفية، إلى “الفرد” المحتسب الرقمى، سواء اكان محتسبا رقمًيا ذكرًا، أو محتسبة رقمية أنثى، ودخل هؤلاء جميعا بعشرات الملايين إلى الواقع الافتراضى بحثًا عن مكانة مفتقدة فى الحياة الفعلية، بحثا عن بناء سلطة احتسابية رقمية، وتحولوا إلى محتسبين رقميين يقومون بالإفتاء فى كل تفاصيل الحياة اليومية ووقائعها المتغيرة، من مقولات تفاهة الممثلين، والممثلات، والمطربين، والمطربات، ولاعبى الكرة ،ووقائع الزواج والطلاق، والخلافات الزوجية إلى فضاءات يومية واسعة،سرعان ماتتحول إلى مادة للإفتاء الرقمى الجهول.
وهكذا تحول الواقع الرقمى ومجاله العام إلي عشرات الملايين من المحتسبين الجدد والطغاة الصغار فى وجه السلطة، ورجال الدين، والآخر الدينى والمذهبى وباتت الحياة الرقمية ومحتسبوها عائقا فى مواجهة أى تطور ديمقراطى محتمل.
لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح رابط دائم: