رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

أيام «التروماى»!

أمسيت لا أدخل أماكن بعينها.. وأقول أمسيت بدلًا عن أصبحت أو أضحيت، لأننى فى غروب العمر، ولا أصدق كثيرًا من تطوعوا لرفع معدلات الشباب والكهولة والشيخوخة وجعلوها أعلى بكثير مما كان سائدًا.

وتلك الأماكن هى التى كنت ألتقى فيها أصدقاء ومعارف وعابرين، ونقضى أوقاتًا طويلة نأكل ونشرب ونثرثر ونتناقش ونتشاجر وننسجم مع دندنات من كان له فى الطرب، أو من كان محترفًا له بين هؤلاء الأصدقاء.

ومع الأيام حدث التساقط وتسارع، حتى كدت أكون مع اثنين أو ثلاثة آخرين من تبقى من «الجرمق»، الذى كان لكثرة عدده يسمون الطاولة التى نجلس إليها «التروماي»، لأنها كانت عدة طاولات تنضم لبعضها كلما زاد العدد!

وبعد أن كنت أدخل تلك الأماكن مبتهجًا أزهو بانتصارات فى كل مجال، وأعدد الغزوات الفكرية والذكورية والسياسية، صرت إذا اقتربت منها أعدد من فقدتهم، وأكاد أردد «العديد» عليهم.. ومعلوم أن العديد والعدودة هو ما يرددونه من كلام شبه منظوم فى المندبة للرثاء وللحسرة على من راحوا.

ورغم فرارى المكانى وابتعادي، إلا أن شريط الذكريات لا يمكن الفرار منه، ولا حتى عمل مونتاج له، ولا الغلوشة عليه، وهو الشريط الجامع لذكريات تلك الأماكن، وذكريات أخرى مع أعزاء راحلين.

أذكر- والابتسامة الحزينة تتشبث بوجهي- يوم أن اصطحبنى أستاذى وصديقى كامل زهيري- رحمة الله عليه- لنؤدى واجب العزاء فى الراحل الكريم السيد محمود رياض، وزير خارجية مصر لسنين طويلة، والأمين العام للجامعة العربية، وعندما اقتربنا من السرادق لكزنى عم كامل وهمس: انظر للصيوان ستجد مجلس وزراء عبد الناصر على اليمين، ومجلس وزراء السادات بعيدًا عنهم فى أقصى الشمال، وفى المنتصف وزراء مبارك الآن.. وبالفعل نظرت وعرفت وجوهًا من هؤلاء وأولئك.

وبعدما خرجنا أردت أن أداعب العم كامل، ولكنها كانت مداعبة ثقيلة، إذ قلت: إننى خائف عليك يا «كومولوس»، وهو الاسم الذى كان يقبله على سبيل الدلال، وسألني: خائف من ماذا؟ فقلت إنه منذ فترة قليلة التقط ملك الموت عبد الخالق حسونة وهو فى التسعينات، وها هو التقط محمود رياض فى الثمانينات، وأخشى أن ينزل إلى من هم فى السبعينات. وبدلًا من أن يضحك الأستاذ كامل تجهم قليلًا، ثم أطلق ضحكة عالية، وقال: لأنك غبي، لا تفهم أن ملك الموت اختطف اثنين من العجائز، وبعدها لا بد أن يأخذ وجبة “تحلية” بواحد فى عمرك!

شريط يتجاور فيه رفاق التروماي، ابتداء من رؤوف عياد وفوزى الهوارى ومحمد رفاعى وسيد خميس وجودة خليفة وسيد حجاب وسيد عواد، وأحمد فؤاد المخرج وسامى السلامونى وعلى سالم وعبد الحى أديب ومحمد حمام وأمين المهدى ورضا هلال وحامد العويضى وآخرين رحلوا معهم وقليلين تبقوا على قيد الحياة، يتجاورون فى الشريط مع كبار عظام عرفتهم واقتربت منهم، وصادقت بعضهم، ابتداء من: الأستاذ كامل زهيري، والعم محمود السعدني، والعم محمد عودة، والأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل، والأستاذ أحمد بهاء الدين، والأستاذ فيليب جلاب، والأستاذ صلاح الدين حافظ، والأستاذ محمد سيد أحمد، والدكتور عصمت سيف الدولة، والأستاذ أحمد الخواجة، والأستاذ صبرى مهدي، والسادة على صبري، وشعراوى جمعة، وأمين هويدي، والفريق أول محمد فوزي، وضياء الدين داود، ومحمد عروق، ومحمد أحمد، والدكتورة حكمت أبو زيد، وآخرين من الوطن العربي، ولكل منهم فقرة طويلة فى شريط الذكريات.. بل إن بعض تلك الفقرات تصلح أن تكون شريطًا متكاملًا قائمًا بذاته، خاصة مع العم الفيلسوف الساخر محمود السعدني، الذى التقيته أول مرة فى لندن خلال يوليو 1979 وعشت معه أيامًا وليالى فى عاصمة الإنجليز، وفى الشارقة بالإمارات، وفى القاهرة خاصة فى النادى النهرى للصحفيين، الذى ضمنى إلى مجلس إدارته مع الراحل الصديق الطيب إبراهيم حجازى وآخرين، وما زلت أذكر الجلسة الأولى التى وزّع علينا فيها المناصب وأعطانا جميعًا لقب «الواد» أى «الولد»، فكان من نصيب الواد- الذى هو أنا- مسؤول الثقافة والندوات، وواد آخر سكرتير عام، وواد ثالث الرياضة، وهلم جرا، وختم بتحية من تحاياه المشهورة “خلص الاجتماع.. قوموا بقى يا ولاد...”!

وما زلت أذكر الجلسة التى أقامها العم محمود وضمت الأستاذ هيكل، والأستاذ إبراهيم نافع، والحاج إبراهيم نافع عمدة الجيزة، والدكتور أسامة الباز، ومعه هالة مصطفى، وماهر أباظة وزير الكهرباء آنذاك، والدكتور مصطفى الفقى، والأستاذ عادل حمودة.. وما دار فيها من حوار بدد ما علاه من تجهم حكاية السعدنى عن انتقاله من روزا إلى الأهرام، بعد ما جرى منه فى السودان وسبابه لاسم الأستاذ هيكل ومعه الأستاذ موسى صبرى، ثم ما دار فى أول لقاء بينه وبين هيكل بعد هذه الواقعة.

إن تسارع وتيرة الرحيل ومفارفة راحلين أعزاء تجعل كثيرين- أنا منهم- يفضلون الوحدة والاعتزال ومحاولة التفرغ لتحويل شرائط الذكريات لمذكرات مكتوبة.. لعل وعسى يكون فيها شىء مفيد.


لمزيد من مقالات أحمد الجمال

رابط دائم: