شعر العامية المصرية، وشعراؤه الكبار لايزال فى حاجة إلى الدرس التحليلى النقدى لوجوهه المختلفة، خاصة فى جوانبه البلاغية، وصوره الاستثنائية، ومجازاته المستمدة من لغة الجموع الشعبية. بعض الدراسات النقدية ركزت على بعض شعرائه الكبار، ونحتاج لمتابعة الأجيال الجديدة، ومنهم إبراهيم عبدالفتاح وآخرون. وخاصة شعرهم السياسى والاجتماعى، بدءًا من بيرم التونسى، فؤاد حداد، وصلاح جاهين، وأحمد فؤاد نجم، وعبدالرحمن الأبنودى، وبدايات سيد حجاب، قبل توجهه إلى أغانى المسلسلات، وديوانه الأخير. ثمة صمت ران على مبدعى العامية من شعراء السبعينيات وما بعد القرن الماضى إلا قليلا من بعض الدراسات. هذا التركيز على السياسى/ الاجتماعى، هو تعبير عن اهتمامات المتن النقدى للمدرسة الاجتماعية التى سادت حركة النقد تحت تأثير المدارس اليسارية فى العمل السياسى فى مصر منذ الأربعينيات، وما بعد، ولا تزال بعض آثارها سائدة إلى المرحلة الراهنة. لا شك أن شعر العامية لعب دورًا مهمًا فى تطوير الموسيقى العربية، ومثلها من مجال القصائد العمودية، وموسيقاها وإيقاعاتها، فى العديد من موضوعاتها، الحب والفراق والشجن والفراق، والوطنية، إلى مجالات أرحب، وإيقاعات أسرع كى تواكب الموسيقى، حركة المجتمع، وتحولاته العلمية، والنفسية، والشعبوية مع شعراء قصيدة العامية البارزين بيرم التونسى، وصلاح جاهين، وفؤاد حداد، والأبنودى، وسيد حجاب، وأحمد فؤاد نجم، والأجيال التالية من الشعراء جيل السبعينيات وما بعد من القرن الماضى. تفاعل شعر العامية مع الموروث الشعبى والفلكلورى وحكاياته، ومروياته، وإعادة صياغتها، وتطويرها، ووظف بعض منجزات الفنون المختلفة بما فيها السينما والفنون التشكيلية فى بناء الصور والإيقاعات. فى قلب هذا الاختمار يمكن وضع قامة كبرى، هى الشاعر الكبير فؤاد حداد، الذى تميز بأنه كان تعبيرًا عن نماذج وتفاعل ثقافتين اللبنانية والمصرية، فى إهاب متفرد، وخصوصية، وذائقة رفيعة، لكن فى إطار الروح المصرية المتفردة، وعبر عامية ساحرة. من ناحية أخرى شكلت ثقافته الفرنسية، والترجمة لبعض أعمالها – اللامذكرات لاندرية مالرو وآخرين-، رافدًا ثقافيا فى تشكيل رؤاه ووعيه المصرى العربى، بالإضافة إلى انتمائه اليسارى الذى فتح عيونه ووعيه على الجوانب الاجتماعية لحركة الجموع الشعبية، وقضاياها واهتماماتها، ومصالحها الاجتماعية المهدرة من الطبقات الأعلى، التى تشكل القاعدة الاجتماعية للسلطة السياسية التوتاليتارية، والتسلطية الحاكمة، التى ينطق خطابها الأيديولوجى الساذج باسم الشعب الذى يبدو سائلًا وغامضا، وغير محدد فى خطابها. هنا شكل الوعى الاجتماعى واليسارى المرتكز على الثقافة المتميزة والرفيعة لشاعرنا الكبير مدخلًا لفهم ثقافة الفئات الاجتماعية المعسورة فى بلادنا، وواقع القهر الاجتماعى الذى خضعت له تاريخيًا من حكام طغاة غالبهم غزاة، ومن ثم دخل إلى عالمهم وأساطيرهم، ومروياتهم، وقدرياتهم ولغتهم الخاصة، مدخلًا لفهم روحهم المتفردة، والمعذبة، وعسر حياتهم، واستمراريتهم البطولية فى الحياة عند الحافة. شاعر متفرد، ولغة خاصة، ونسق بلاغى من العامية المؤنفة الساحرة، الحاملة لرأسمال الخبراتى وبلاغة وحكمة تاريخ المعسورين الذين شكلوا تاريخيًا روح الشعب، ثم الأمة المصرية. ثقافة وتكوين وروح فؤاد حداد العذبة أعطته مفاتيح لفك، وفتح أبواب روح البسطاء، وقدراتهم الفذة على التكيف مع عسر الحياة، والطغيان الشرقى، والتمرد، والسكون فى جدلية تاريخية، صاغوها بالمواويل والأغانى والإنشاد والموسيقى، ودولة القراءة والترتيل الدينى لأبنائهم من الفقراء فى الصعيد والدلتا، الذين جعلوا النص المقدس موسيقى حياتهم، وسندا لهم، ودرعا لهم فى مواجهة عسر حياتهم المغدورة التى تبدو وكأنها أقدار ما ورائية. نهل شاعرنا المثقف الكبير من الموارد المختلفة لنهر الصوفية التراثى التاريخى، فى خلفية رؤاه الشاعرة، لكنه تبحر فى نهر الصوفية المصرى الشعبى، وتجلياته، وفيوضاته المرتكزة على روح التدين الشعبى المصرى، وعرج من خلالها إلى المعراج الصوفى نحو العلا! فى شعرية خاصة متوحدة مع فؤاد حداد. إلا أن مجايليه وبعض الأجيال اللاحقة ذاع صيتهم بسبب تركيزهم على كتابة الأغنية والمواويل المغناة من قبل صلاح جاهين ومفرداته، وصوره، ولغته الأكثر شعبية ثم عبدالرحمن الأبنودى، خاصة انخراطهم فى دعم وتأييد الناصرية والساداتية قبل هزيمة يونيو 1967، وما بعدها، على نحو أتاح لهم مساحات للحضور فى الجهاز الاعلامى والأيديولوجى للنظام. بينما ظل حضور أحمد فؤاد نجم ساطعا فى دوائر الرفض وأجيال الشباب، لاسيما جيل السبعينيات، ويحاصر إعلاميا، ويتداول شعره سرًا بينهم، وفى العالم العربى. ثم أمر مهم فى فهم سوسيولوجية ثقافة فؤاد حداد ابن الطبقة الوسطى المدينية الكوزموبوليتانية، وبقاياها حول القاهرة، لاسيما ثقافة وسط المدينة، وتعدد روافدها، وهو ما أثر أيضًا على بنائه الشعرى، ومفرداته العامية المدينية فى الغالب، مع الميراث الصوفى، خاصة فى ممارساته وطقوسه الشعبية الموالدية، وفى طقس الزار أيضا كخلفيات مؤثرة فى بنائه الشعرى. هذه الروافد، والخبرات اللغوية، الشامية المصرية وأصوله المسيحية قبل الإسلام، أثرت فى قاموسه الشعرى المصرى، بل فى تجاربه الروحية، بعوالمها المتعددة، على نحو شكل فرادته وخصوصيته فى مسار شعر العامية المصرية، وأثر على نحو باهر فى الأجيال اللاحقة فى شعر العامية المصرية، وجعلها تبتعد عن النزعة الزجلية، أو الغنائية.
لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح رابط دائم: