رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

خصمان بغى بعضهما على بعض «2» بوتين

الأخ الأكبر حاضر دائما، أينما يولى الرفاق وجوههم سيجدونه أمامهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم. سيجدونه عندما يريدونه وعندما لا يريدونه. يتجلى فى كل الأوقات وجاهز للتدخل لحمايتهم من الآخرين ومن أنفسهم إذا اقتضى الأمر. أليس هو من يعرف أكثر وبوسعه أن يرى ما خفى عنهم مما ينفعهم أو يضرهم!. نشاط الأخ الأكبر فى الواقع يتجاوز ما تصوره أو تخيله الكاتب المبدع جورج اورويل. لا يكتفى بالمراقبة من بعيد أو قريب بل يتدخل فورا وبقوة. لا يدخر جهدا ولا مالا للقيام بدوره حتى دون أن يطلب الرفاق المساعدة، فواجبه حمايتهم من شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم. لذلك أرسل دباباته إلى المجر 1956 واخمد انتفاضتها، وأعاد إرسالها إلى تشيكوسلوفاكيا فى 1968 لوأد ربيع براغ، وسارع باحتواء مد شعبى كان يمكن أن يتطور فى جورجيا 2008 وكازاخستان فى يناير الماضى.

وكما يحمى الرفاق بالقوة يحمى نفسه أيضا لتحقيق مصالحه مثل أى دولة عظمى لديها مناطق نفوذ فى محيطها الإقليمى تسعى للهيمنة عليها وتأمينها. كل الإمبراطوريات الكبرى على مر التاريخ فعلت نفس الأمر، لذا لم يكن الروس استثناء تاريخيا عندما قرروا غزو جورجيا 1921 وبولندا وفنلندا 1939 وأفغانستان 1979. من هذا المنظور التاريخى يمكن رؤية وفهم قرار بوتين بشن حربه الحالية بأوكرانيا.

بوتين لم يهبط على روسيا من كوكب آخر هو ابن شرعى للبيئة الروسية بروافدها الثقافية والسياسية والاجتماعية. ومن الطبيعى أن يكون متشبعا بتعاليم وثوابت فلسفة الحكم التى فرضتها حتميات تاريخية وموقع جغرافى له خصائصه وخصوصياته وهى عوامل وجهت دوما بوصلة السياسة الخارجية والداخلية لروسيا أيا كان السيد القابع فى الكرملين. بوتين ليس حالة شاذة فى تاريخ بلاده، هو امتداد طبيعى للإرث الروسى السوفيتى بكل ثرائه وتعقيداته وعمقه وأزماته وعنفه. وحربه الحالية منسجمة تماما مع هذا الإرث.

لكن مشكلة بوتين، كما تشخصها الكاتبة الأوكرانية زويا شيفتالوفيتش، أنه لا يريد ولا يستطيع الاعتراف بأن الزمن تغير من حوله. مازال يعيش نفسيا وفكريا فى الماضى، فى عالم لم يعد له وجود، عالم انتهى فعليا بنهاية الحرب الباردة. يريد إعادة بناء ذلك العالم وهذا مستحيل. روسيا ليست الاتحاد السوفيتى، وبوتين لا يمكنه أن يحكم بنفس طريقة أسلافه. كما أن الرفاق كبروا وخرجوا من عباءة روسيا وتمردوا عليها.

بوتين مخلص لقناعاته ومسكون بالأفكار والمشاعر القومية المتأججة ويحلم باستعادة المجد السوفيتى البائد. لذلك سيظل حبيس الماضى الغابر والأحلام المستحيلة والطموحات غير الواقعية. تلك خلاصة تحليل شخصيته كما كتبتها زويا فى تقرير نشره موقع بوليتيكو الأمريكى.

تعتبر الكاتبة أن اجتياح روسيا للأراضى الأوكرانية لا يعنى أنها ستنتصر لأن حسابات بوتين خاطئة. بالغ فى تقدير إمكانيات قواته واستهان بقوة خصومه، وتصور أن المعركة ستكون سريعة وخاطفة. نسى أن الغرب لن يسمح له بالانتصار. ولم يتصور أن يكون رد فعله بهذا العنف.

قبل الاسترسال فى عرض وجهة نظر الكاتبة نشير أولا إلى أن الغرب وفقا لتقييم انتونى بلينكن وزير الخارجية الأمريكى يعتبر أن روسيا لقيت هزيمة إستراتيجية بالفعل حتى لو كانت المعارك مستمرة. وفى حوار بثته «سى إن إن» شرح بلينكن حيثيات هذا الحكم البات بقوله إن روسيا فشلت فى تحقيق أهدافها الإستراتيجية الثلاثة وهى إخضاع أوكرانيا لإرادتها وإلغاء استقلالها وسيادتها وهو ما لم ولن يحدث. الهدف الثانى هو تأكيد واستعراض القوة، لكن الأداء العسكرى الروسى، والحديث لبينكن، جاء أقل من المتوقع، وهى حقيقة اعترف بها المتحدث باسم الكرملين مقرا بالخسائر الفادحة ووصف ذلك بالمأساة الكبرى. الهدف الثالث هو غرس بذور الشقاق والانقسام فى صفوف الغرب، فيما اعتبر بلينكن أن الغرب متحد أكثر من أى وقت مضى.

لكن يبدو أن بوتين كان يقرأ المشهد الغربى على نحو مختلف. رأى علامات مشجعة للقيام بمغامرته الحالية فى مقدمتها الانسحاب الأمريكى الفوضوى والمهين من أفغانستان التى كانت بدورها احد أسباب انهيار الاتحاد السوفيتى بعد عشر سنوات من حربه الفاشلة هناك. تعتقد الكاتبة الأوكرانية أن بوتين رأى فى الهزيمة الأمريكية بأفغانستان لحظة ضعف مناسبة لتنفيذ مخططه دون رد فعل عنيف. توقع أن يكون سقوط كييف فى أيدى قواته بنفس سرعة وسهولة سقوط كابول فى أيدى طالبان بعد فرار أمريكا 2021. اعتقد أن الظروف مواتية لحرب خاطفة بلا عواقب خطيرة.

الأوكرانيون بدورهم خيبوا آماله. اكتشف أنهم لا يحنون إلى الماضى السوفيتى. لم يرحبوا بالأخ الأكبر العائد والقادم بلا دعوة. استعصت عليه كييف، لم تسقط بنفس سرعة وسهولة سقوط كابول، ولم يهرب الرئيس الأوكرانى زيلينسكى كما فعل نظيره الأفغانى اشرف غانى. لم يتبخر الجيش الأوكرانى على غرار ما حدث للجيش الأفغانى. وبتعبير «زويا» توقع بوتين أفغانستان 2021 فإذا به أمام أفغانستان 1979.

هكذا تهاوت كل حسابات القيصر. لم ينتصر وليس مسموحا له بالانتصار، هذه معركة الغرب وليست أوكرانيا فقط. وإن لم يفهم هذه الحقيقة سيعيش فى حالة إنكار مدمرة له ولبلاده. لا يملك الموارد ولا القدرات للاستمرار فى الحرب، ولن يستطيع تسويقها لشعبه إذا توالت الخسائر وتعاظمت معاناة الناس. كل يوم تستمر فيه المعارك يصبح قرار وقف الحرب أصعب. عندما تذهب السكرة وتأتى الفكرة سيكتشف حجم الكارثة وفداحة الثمن الذى ستدفعه بلاده لسنوات قادمة. وسيفهم ما كان يقصده العالم والمفكر الأمريكى بنجامين فرانكلين عندما قال إن تكلفة الحرب لا يتم سدادها بالكامل فى زمن الحرب نفسها، إنما تأتى الفاتورة لاحقا.


لمزيد من مقالات عاصم عبدالخالق

رابط دائم: