أنزل الله تعالى الإسلام رحمة وهداية للعالمين، وبعث رسوله الكريم سيدنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الرسالة الخاتمة لتحقيق غاية سامية فيها تحقيق السعادة للإنسانية فى الدنيا والآخرة، وتلك الغاية هى هداية البشر إلى التعرف على الله تعالى بما بثه فى الكون والآفاق من آيات باهرة تدل دلالة يقينية على أن لهذا الكون العظيم صانعا قديرا حكيما خبيرا، قال تعالى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الْآفَاقِ وَفِى أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَق) [فصلت :53]. وعلى هذا الأساس قام التكوين الأساسى للمعارف عند المسلمين، فقد كانت نظرتهم فى الكون والآفاق وتحصيل أسرار ما كمن فى طيات هذا الكون من علوم ومعارف فى المقام الأول نظرة تأمل وتدبر وعبادة وتعرف على الله تعالى عن طريق ما أودعه الله فى الكون والآفاق من آيات وعجائب، ثم تأتى بعد ذلك قضية الانتفاع المادى بآثار تلك المعرفة وبتسخيرها فى نفع البشرية وإصلاح أحوال الناس ومعيشتهم، وكان الاتساق بين العلم والدين فى حياة المسلمين عجيبا وكان التوافق والإطراد بينهما مما يستدعى التأمل والنظر، وقد يسأل أحدنا نفسه: وهل من المتصور أن يحدث خلاف أو تناقض بين العلم وبين الدين؟ أقول أما مع المعرفة الصحيحة بالله تعالى وبمقاصد دينه فلا يمكن أبدا أن يحدث خلل أو تناقض بين العلم وبين الدين، وأما مع الجهل المركب وقصور المعرفة والإدراك الناقص المشوه لحقائق الدين ومقاصده فقد يحدث فى ذهن بعض هؤلاء شعور بالتناقض قد يؤدى إلى محاربة العلم أو الانسلاخ عن الدين، يقول الأستاذ عباس محمود العقاد فى كتابه الإسلام والحضارة الإنسانية ص 42 : (فى القرون الوسطى كان الموت عقابا عاجلا لكل من يحاول أن يُشرِّح جسم الإنسان لأنهم اعتقدوا فى تلك العصور أن المشرحين يختلسون سر الحياة وينازعون الله جل وعلا فى أمر الروح ، وفى العصر الحديث فزع الجهلاء من سماع صوت الإنسان خارجا من آلات الحديد والخشب ، وحدث فى بعض قرى الريف عند ظهور الجرامفون أن دعيا من أدعياء الدين حطم الجرامفون وأوشك أن يبطش بسامعيه لأنهم يستمعون إلى الشيطان...أ.هـ والملاحظ أن هذا القصور والجهل لا يتوقف على زمان بعينه أو على دين بعينه، فلكل عصر جهلاؤه ولكل دين مدعوه ممن يعتبرون المعرفة والعلم فيهما مناقضة للدين، والذى يطمئن قلوبنا أن مسيرة العلم والاكتشاف والاختراع والمعرفة أقوى وأعظم من أن يؤثر فى مسيرتها أمثال هؤلاء القاصرين، ومن المؤكد أن تحقيق مصالح الخلق هو من المقاصد العامة التى اتفقت عليها جميع الأديان والملل الإلهية، ولكن علينا أن نفرق هنا بين نوعين من المعرفة، النوع الأول: المعرفة المادية البحتة التى ترى أن علاقة الإنسان بالكون هى علاقة مادية لا غير، وأن ما ينتج عن تلك المعرفة ما هو إلا منتوجات صناعية الغرض منها الانتفاع المادى وتحصيل اللذة الحسية العاجلة، والنوع الثانى من المعرفة وهى التى حث عليها ديننا الحنيف كما أسلفنا تقوم على أن علاقة الإنسان بالكون هى علاقة روحية فى المقام الأول؛ لأن المؤمن العاقل يفهم من قول الله تعالى (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) أن الكون بكل مكوناته وذراته يسبح الله تعالى ويعبده، ويتأمل قول الله تعالى (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) فيعلم أن الكون عابد لله تعالى معه، وسائر بكل ذرة فيه إلى نفس الغاية وهى محبة الله تعالى والدينونة له، إن الذى ينظر فى الكون نظرة التدبر والتأمل التى توصل إلى المعرفة اليقينية بالله تعالى وعبادته، لن تصل به معرفته وعلومه أبدا إلى الاستهتار بأرواح البشر أو إلى استعمالهما فى الإضرار بالإنسانية، ولن تسمح له نفسه بأن يستعمل علمه فى التحكم فى مصائر الشعوب أو احتكار الثروات أو التحكم فى المقدرات، وعلى هذا الأساس المعرفى الأخلاقى الذى يجمع بين العقل والروح طور العرب المسلمون العلوم والمعارف التى نُقلت من الحضارة اليونانية والهندية، وأسهموا إسهامات بالغة فى دفع وتطوير مسيرة العلوم الإنسانية إلى الأمام، ففى مجال الرياضيات مثلا أضاف عالم الرياضيات المسلم أبو عبد الله محمد بن موسى الخوارزمى (ت 235هـ) كثيرا إلى علوم الرياضيات بكتابه القيم (المختصر فى حساب الجبر والمقابلة) الذى تُرجم إلى اللاتينية وظل المرجع الأول فى هذا العلم فى الجامعات الأوروبية حتى بواكير القرن السادس عشر الميلادى، وهو الذى أدخل فكرة الصفر إلى الأرقام، وقد كتب الأستاذ قدرى طوقان ضمن كتابه (بين العلم والأدب ص5) مقالا قيما عن (فضل الصفر على المدنية) جاء فيه: (ويعد هذا النظام من المخترعات الأساسية ذات الفوائد العظيمة التى توصل إليها العقل العربى حيث لم تنحصر مزاياه فى تسهيل الترقيم وحده، بل تعدته إلى تسهيل جميع أعمال الحساب، ولولا الصفر لما استطعنا أن نحل كثيرا من المعادلات الرياضية من مختلف الدرجات بسهولة التى نحلها بها الآن). انتهى.
إن ما يهمنا هنا ليس مجرد ذكر ما قدمه المسلمون للحضارة الإنسانية من إسهامات ، بقدر ما يهمنا أن نوضح طبيعة العقل المسلم ومنهجه الذى يفكر به، والأساس الأخلاقى والروحى الكامن فى تلك الحضارة الذى ورثه من منهج النبى صلى الله عليه وآله وسلم الذى أرسله الله تعالى بمكارم الأخلاق.
------------------------
> مفتى الجمهورية
لمزيد من مقالات د. شوقى علام رابط دائم: