رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

تلك الأيام
حسـن طلب ونظرية فلسفية مصرية

أينما ‬يوجد‭ ‬الإنسان‭ ‬توجد‭ ‬الفلسفة‭ ‬وأسئلة‭ ‬الوجود‭ ‬الكبرى،‭ ‬وتكون‭ ‬الحضارات‭ ‬المستقرة‭ ‬أرضا‭ ‬خصبة‭ ‬لنمو‭ ‬الإنساق‭ ‬والمدارس‭ ‬الفلسفية،‭ ‬لكن‭ ‬الشىء‭ ‬المدهش‭ ‬والغريب،‭ ‬هو‭ ‬تجاهل‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬للفكر‭ ‬الفلسفي‭ ‬فى‭ ‬الحضارة‭ ‬المصرية‭ ‬القديمة‭ لصالح ‬الفلسفة‭ ‬اليونانية‭ ‬التى‭ ‬غدت‭ ‬من‭ ‬المعجزات‭ ‬الفكرية،‭ ‬بعد سطوع‭ ‬آراء‭ ‬سقراط‭ ‬وأفلاطون‭ ‬وأرسطو‭ ‬فى ‬سماء‭ ‬الفكر‭ ‬الإنسانى،‭ ‬دون‭ ‬الالتفات‭ ‬إلى ‬المنبع‭ ‬الذى ‬جاءت‭ ‬منه‭ ‬هذه‭ ‬الفلسفة،‭ ‬وهو‭ ‬الفكر‭ ‬والحضارة‭ ‬المصرية‭ ‬القديمة،‭ ‬وأن‭ ‬معظم‭ ‬الفلاسفة‭ ‬والمفكرين‭ ‬اليونانيين‭ ‬تعلموا‭ ‬فى‭ ‬جامعات‭ ‬مصر‭ ‬القديمة‭.‬


الشاهد‭ ‬أن‭ ‬سطوع‭ ‬الحضارة‭ ‬المصرية‭ ‬لم‭ ‬يواكبه‭ ‬سطوع‭ ‬فلسفى. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬شغل‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬مثل‭ ‬مارتن‭ ‬برنار‭ ‬صاحب‭ ‬كتاب‭ «‬أثينا‭ ‬السوداء‮»‬‭ ‬وجورج‭ ‬جيمس‭ ‬صاحب‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬التراث‭ ‬المسروق‮»‬‭ ‬اللذين‭ ‬أنصفا‭ ‬الحضارة‭ ‬المصرية‭ ‬وأرجعا‭ ‬جذور‭ ‬الفلسفة‭ ‬اليونانية‭ ‬إلى ‬الفكر‭ ‬المصرى‭ ‬القديم‭.‬

فيما‭ ‬يعتبر‭ ‬الشاعر‭ ‬حسن‭ ‬طلب‭ ‬أول‭ ‬مصري‭ ‬دارس‭ ‬للفلسفة‭ ‬يبحث‭ ‬فى ‬الفلسفة‭ ‬اليونانية‭ ‬وجذورها‭ ‬المصرية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كتابه‭ ‬‮«أصل‭ ‬الفلسفة‮»‬‭ ‬حول‭ ‬نشأة‭ ‬الفلسفة‭ ‬فى ‬مصر‭ ‬القديمة‭ ‬وتهافت‭ ‬نظريات‭ ‬المعجزة‭ ‬اليونانية‭.



د.حسـن طلب

‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬كتابه‭ ‬سابق‭ ‬على ‬كتاب‭ ‬التراث‭ ‬المسروق‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬يأخذ‭ ‬حظه‭ ‬من‭ ‬الذيوع‭ ‬والانتشار‭!‬

يقول‭ ‬دكتور‭ ‬حسن‭ ‬طلب،‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب،‭ ‬بوجود‭ ‬نظرية‭ ‬فلسفية‭ ‬مصرية‭ ‬تطورت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬على ‬أيدي‭ ‬فلاسفة‭ ‬اليونان‭.‬

والفلسفة‭ ‬المصرية‭ ‬بدت‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالدين‭ ‬وكان‭ ‬أول‭ ‬بحث‭ ‬فلسفى ‬فى ‬العالم‭ ‬متمثلاً‭ ‬فى ‬المذهب‭ ‬المنفى‭ ‬أي‭ ‬مذهب‭ ‬الإله‭ ‬بتاح‭ ‬الذى ‬فسر‭ ‬العالم‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الخلق‭ ‬بالكلمة‭ ‬واللسان‭.‬

وقال‭ ‬عنه‭ ‬بريستيد‭ ‬فى ‬فجر‭ ‬الضمير‭: ‬هو‭ ‬أول‭ ‬مذهب‭ ‬فلسفى‭ ‬وصل‭ ‬إلينا‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬القديم‭.‬

‮«‬وماعت‮»‬‭ ‬التى ‬كانت‭ ‬تعنى‭ ‬الحق‭ ‬والعدل،‭ ‬بدأ‭ ‬معناها‭ ‬يتسع‭ ‬تدريجيا‭ ‬مع‭ ‬بداية‭ ‬عصر‭ ‬الدولة‭ ‬القديمة‭ ‬ليشمل‭ ‬دلالات‭ ‬فلسفية‭ ‬أكثر‭ ‬تنوعا،‭ ‬فغدت‭ ‬نقيض‭ ‬الخطايا‭ ‬الخلقية‭ ‬بوجه‭ ‬عام‭. ‬ثم‭ ‬صارت‭ ‬فى ‬نظر‭ ‬رجال‭ ‬الفكر‭ ‬تعنى‭ ‬النظام‭ ‬القومى‭ ‬والقانون‭ ‬الكونى‭ ‬الشامل‭ ‬الذى ‬يخضع‭ ‬له‭ ‬الفرعون‭ ‬نفسه،‭ ‬بما‭ ‬يعني‭ ‬المساواة‭ ‬بين‭ ‬البشر‭. ‬ثم‭ ‬غدت‭ ‬النظام‭ ‬الخلقى‭ ‬للعالم‭ ‬بأسره‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬كما‭ ‬يذكر‭ ‬بريستيد،‭ ‬أي‭ ‬أصبحت‭ ‬نظاماً‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬العالمية‭ ‬وكانت‭ ‬بداية‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬عقيدة‭ ‬التوحيد‭. ‬وقد‭ ‬وصف‭ ‬أخناتون‭ ‬نفسه‭ ‬بأنه‭ ‬الذى ‬يعيش‭ ‬فى ‬الماعت‭.‬

وقد‭ ‬عاش‭ ‬الفكر‭ ‬المصرى ‬عقب‭ ‬انهيار‭ ‬الدولة‭ ‬القديمة‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الشك‭ ‬والحيرة‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬اتجاهين‭ ‬فلسفيين‭ ‬كما‭ ‬يذكر‭ ‬دكتور‭ ‬حسن‭ ‬طلب،‭ ‬أحدهما‭ ‬اتجاه‭ ‬واقعي‭ ‬نفعي‭ ‬والآخر‭ ‬مثالى‭ ‬وكان‭ ‬يمثل‭ ‬الأخلاق‭ ‬النفعية‭ ‬‮«‬نفرحتب»‬‭ ‬الذى ‬دعا‭ ‬إلى ‬تأسيس‭ ‬معيار‭ ‬اللذة‭ ‬قائلاً‭:‬

«أولئك‭ ‬الذين‭ ‬كانت‭ ‬لهم‭ ‬مخازن‭ ‬غلال‭ ‬داهمهم‭ ‬الموت

وكذلك‭ ‬داهم‭ ‬من‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لديه‭ ‬شىء‭ ‬فاتبع‭ ‬رغباتك‭ ‬كلها

فلا‭ ‬يوجد‭ ‬إنسان‭ ‬يعود‭ ‬ثانية‮»‬‭.‬

كان‭ ‬معيار‭ ‬اللذة‭ ‬والاستمتاع‭ ‬بمباهج‭ ‬الحياة‭ ‬وملاذها‭ ‬الحسية‭ ‬هو‭ ‬النتيجة‭ ‬المباشرة‭ ‬للشك‭ ‬فى ‬القيم‭ ‬الرفيعة‭ ‬المنبعثة‭ ‬من‭ ‬‮«‬ماعت‮»‬‭.‬

كما‭ ‬ساد‭ ‬الاتجاه‭ ‬العدمي‭ ‬أيضا‭ ‬ونجد‭ ‬ذلك‭ ‬فى ‬النص‭ ‬الشهير‭ ‬‮«‬كاره‭ ‬البشر‮»‬‭ ‬لمن‭ ‬أتكلم‭ ‬اليوم‭:‬

فالرجل‭ ‬المهذب‭ ‬يهلك،‭ ‬والصفيق‭ ‬يرحب‭ ‬به‭ ‬فى ‬كل‭ ‬مكان‭.‬

إن‭ ‬الموت‭ ‬أمامى‭ ‬اليوم‭ ‬كسماء‭ ‬صافية،‭ ‬مثل‭ ‬رجل‭ ‬يصطاد‭ ‬طيوراً‭ ‬لا‭ ‬يعرفها‭.‬

إن‭ ‬الموت‭ ‬اليوم \ مثل‭ ‬رجل‭ ‬يتوقف‭ ‬لرؤية‭ ‬بيته‭ ‬بعد \ أن‭ ‬أمضى‭ ‬سنين‭ ‬عدة‭ ‬فى ‬الأسر‭.‬

ونزعة‭ القلق ‬التى ‬سادت‭ ‬عند‭ «‬نفرحتب‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬بمثابة‭ ‬عصر‭ ‬التنوير‭ ‬الذى ‬أشرق‭ ‬فى ‬سماء‭ ‬الفكر‭ ‬المصرى،‭ ‬فعلم‭ ‬الناس‭ ‬كيف‭ ‬يفكرون‭ ‬ويتأملون‭ ‬وينتقدون‭ ‬،‭ ‬يكفى‭ ‬الشك‭ ‬فى ‬البعث‭ ‬والحياة‭ ‬الأخرى،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬النصوص‭ ‬الدالة‭ ‬على ‬ظهور‭ ‬الإلحاد‭ ‬فى ‬مصر‭ ‬القديمة،‭ ‬ولا‭ ‬يوجد‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬المذاهب‭ ‬الإلحادية‭ ‬فى ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬تذهب‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الإلحاد‭ ‬المبكر‭.‬

أما‭ ‬التيار‭ ‬المثالي‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يمثله‭ ‬‮«‬عنخو‮»‬‭ ‬الذى ‬يتباكي‭ ‬على ‬العدالة‭ ‬قائلاً‭: ‬الرجل‭ ‬الفقير‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬حول‭ ‬ولا‭ ‬قوة‭ ‬لينجو‭ ‬ممن‭ ‬هو‭ ‬أشد‭ ‬منه‭ ‬بأساً،‭ ‬وإنه‭ ‬لمؤلم‭ ‬أن‭ ‬يستمر‭ ‬الإنسان‭ ‬ساكتا‭ ‬على ‬الأشياء‭ ‬التى ‬يسمعها،‭ ‬ولكنه‭ ‬مؤلم‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬يجيب‭ ‬الإنسان‭ ‬الرجل‭ ‬الجاهل‭.‬

وفي‭ ‬الدولة‭ ‬الوسطى‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬بناء‭ ‬الأهرامات‭ ‬الضخمة‭ ‬والقبور‭ ‬الباهظة‭ ‬هو‭ ‬الوسيلة‭ ‬المثلي‭ ‬لضمان‭ ‬الخلود،‭ ‬بل‭ ‬لقد‭ ‬أصبح‭ ‬هذا‭ ‬الخلود‭ ‬مرهونا‭ ‬بالفضيلة،‭ ‬وبذلك‭ ‬بزغ‭ ‬فجر‭ ‬عقيدة‭ ‬خلود‭ ‬الروح‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬فى ‬عقول‭ ‬البشر‭.‬

وبعد‭ ‬موجة‭ ‬الشك‭ ‬جاءت‭ ‬موجة‭ ‬الانتصار‭ ‬للفضيلة‭ ‬والقيم‭ ‬العليا،‭ ‬حيث‭ ‬أصبحت‭ ‬فضيلة‭ ‬الرجل‭ ‬الفقير‭ ‬المستقيم‭ ‬أكرم‭ ‬عند‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬الثور‭ ‬الذى ‬يقدمه‭ ‬الغنى‭ ‬الظالم‭ ‬قربانا‭ ‬للآله‭.‬

ويقول‭ ‬دكتور‭ ‬حسن‭ ‬طلب‭ ‬أن‭ ‬المثالية‭ ‬الخلقية‭ ‬تطورت‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬الكمون‭ ‬فى ‬فلسفة‭ ‬‮«‬عنخو‮»‬‭ ‬إلى ‬الوضوح‭ ‬والتحديد‭ ‬كما‭ ‬فى ‬فلسفة‭ ‬‮«إيبور‮»‬‭ ‬الذى ‬يقول‭: ‬ليتنى‭ ‬رفعت‭ ‬صوتى ‬من‭ ‬قبل‭ ‬حتي‭ ‬أنقذ‭ ‬نفسي‭ ‬من‭ ‬الألم‭ ‬الذى ‬أنا‭ ‬فيه‭ ‬الآن،‭ ‬فالويل‭ ‬لى‭ ‬لأن‭ ‬الألم‭ ‬عم‭ ‬فى ‬هذا‭ ‬الزمان‭.‬

وهو‭ ‬صاحب‭ ‬أول‭ ‬يوتوبيا‭ ‬للحاكم‭ ‬المثالى‭ ‬يقول‭ ‬عنه‭: ‬أنه‭ ‬يطفئ‭ ‬اللهيب،‭ ‬ويقال‭ ‬عنه‭ ‬راعى‭ ‬كل‭ ‬الناس،‭ ‬ولا‭ ‬يحمل‭ ‬فى ‬قلبه‭ ‬شراً،‭ ‬حينما‭ ‬تكون‭ ‬قطعانه‭ ‬قليلة،‭ ‬فإنه‭ ‬يصرف‭ ‬يومه‭ ‬فى ‬جمع‭ ‬بعضها‭ ‬إلى ‬بعض‭.. ‬أين‭ ‬هو‭ ‬اليوم‭ ‬؟‭ ‬انظر‭: ‬إن‭ ‬بأسه‭ ‬لا‭ ‬يرى‭.‬

ويؤصل‭ ‬دكتور‭ ‬حسن‭ ‬طلب‭ ‬للفلسفة‭ ‬المصرية‭ ‬القديمة‭ ‬ودورها‭ ‬فى ‬الفكر‭ ‬الإنسانى‭ ‬بما‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬تهافت‭ ‬نظرية‭ ‬المعجزة‭ ‬اليونانية،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬الفرضية‭ ‬الأساسية‭ ‬التى ‬انطلق‭ ‬منها،‭ ‬هى‭ ‬أن‭ ‬الحضارة‭ ‬الإنسانية‭ ‬فى ‬مجملها‭ ‬وحدة‭ ‬لا‭ ‬تتجزأ،‭ ‬وأن‭ ‬التمايزات‭ ‬لا‭ ‬تبرر‭ ‬قيام‭ ‬خط‭ ‬فاصل‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب،‭ ‬وأن‭ ‬التقسيمات‭ ‬المصطنعة‭ ‬للحضارة‭ ‬والعقل‭ ‬الإنسانى‭ ‬بين‭ ‬شرقى‭ ‬وغربي‭ ‬تهدف‭ ‬إلى ‬سلب‭ ‬الشرق‭ ‬إمكانية‭ ‬التفكير‭ ‬العقلي‭ ‬والنظر‭ ‬الفلسفى،‭ ‬بينما‭ ‬يكشف‭ ‬تاريخنا‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬فى ‬مصر‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬عاجزاً‭ ‬عن‭ ‬ممارسة‭ ‬التأمل‭ ‬الفلسفى‭ ‬فى ‬وسائل‭ ‬ميتافيزيقية‭ ‬وأخلاقية‭ ‬كخلود‭ ‬الروح‭ ‬والمسئولية‭ ‬الشخصية‭.‬


لمزيد من مقالات محسن عبدالعزيز

رابط دائم: