هل انتهى الخماسين؟هل كانت مجرد أيام أو سنين متراكمة صبغت الرؤية باللون الترابى الرملى أصفر فى صحراء التيه؟ لتصبح مثل مدن الملح قبل أن ينقذها النفط ونعيمه؟ سألت نفسى وأنا أتحسس كلمات الصديق الراحل ياسر رزق، الذى افتقدت كلماته وأسلوبه الخبرى الرشيق فى رصد الأحداث وتحليلها بوطنية حقيقية دون ادعاء، كما افتقدته صفحات جريدته الأم، وقد كان شعلة نشاط ومزيجا نادرا من المهنية والموهبة والإخلاص والحب للوطن، ولكلمة الوطن، دون غرض أو مزايدة. ولاستعادة ذكريات الحس الصحفى التى أصبحت تخبو بداخلى مع الأيام ومع فقدان الدهشة ثم الحماس، وجدتنى أقبل على تصفح كتابه الذى ودع به مصر وهو يهديه إلى الشعب العظيم، ولم ينس الأجيال المقبلة ليقدم حكاية وطنكم فى حقبة فاصلة عساها تنير الطريق وأنتم تشيدون مجدا جديدا، معطرا بعظمة تاريخ.
تذكرت هتافات يناير ثم صراخات يونيو لإنقاذ مصر، وصور العدو تحت أقدام الشباب وأقدامنا أمام الاتحادية.
يقول ياسر رزق إن كلماته ليست محاولة لكتابة تاريخ إنما محاولة لقراءة حاضر وبنظرة فلسفية يفسر ذلك، فإنك لا تؤرخ لأحداث ماض قريب، بينما هى تنبض وتتحرك وتتفاءل على حد تعبيره لكى يمكنك أن ترصد مجريات أمور، وهذا ما فعله فى كتابه هذا الذى كان يظن أنه سيكون بداية لثلاثية عن الجمهورية الثانية، وهو يرجو أن يمتد به العمر لكى ينهيه.. لكن!
لا أنكر أننى ترددت وأنا أقلب صفحات الخماسين، فالذكرى برغم أنها ليست بعيدة، إلا أنها مؤلمة ودرامية، خصوصا مع أمثالى من أجيال الوطنية العسكرية المسلحة والتربية الوطنية فى البيت قبل المدرسة، وطوابير تحية العلم داخل أسوار المنزل، وداخل أسوار المدرسة وطفولة الميثاق، ودستور المجد وطاعة الأوامر، ثم التفكير والمناقشة، محيط وبيئة خاصة جدا ومميزة وسط تاريخ من الانتصارات والانتكاسات والهزائم، موجات حادة من الأحداث جعلتنا كجيل تلحقنا شيبة الشعر قبل الأوان.
الغريب أن الصحفى ياسر رزق، كشف فى كتابه الأخير «سنوات الخماسين» عن أسرار كنت أعلمها قبل أن تكشف، بحكم قربى الصحفى والإنسانى من أرصفة الحكم، برغم حرصى الدائم على حفظ المسافة المهنية بين ما أعلمه وبين المفترض البوح به.
كنت أقرأ كتابه لا لأعرف أسرارا جديدة، لكن لكى أتأكد من صدق معرفتى وحدسى بما حدث وبنتائجه، فى محاولة عقيمة لطرح الحياد جانبا.
وكيف أحيد وأنا الوطنية عندى هى الطاعة والانتباه والعقيدة ثابتة، «اعرف عدوك ولا تنسه، فهو لا ولن ينساك».
انتهيت من خماسين ياسر رزق وسنواته، لأجدد حزنى على فقد قلم كان يمكن أن يسهم أكثر وأكثر فى نهضة وطن يحتاج إلى المخلصين فى مهنة البحث عن المتاعب.
لمزيد من مقالات دينا ريان رابط دائم: