شغفت أيام الدراسة الجامعية بأديبين قديمين تركا بصمتين واضحتين على التراث العربى فكرًا ولغة، أولهما شيخ العربية الجاحظ وثانيهما أبو حيان التوحيدى (310 - 414 هـ) الفيلسوف والأديب والمثقف الموسوعى، الذى ولد ببغداد وتوفى فى شيراز، وغلبت كنيته على اسمه فاشتهر بها، وكتب فى فنون شتى وبخاصة الفلسفة والتصوف والأدب، فاستحق أن يلقّب بأديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء. وبرغم أن التوحيدى عاش 103 سنوات هجرية، إلا أن ما وصلنا عن حياته بشقيها الشخصى والعام قليل، لا يتجاوز ما أورده بنفسه فى مؤلفاته، وربما كان مرجع تجاهل أدباء ومؤرخى عصره له ما أشيع عن انتمائه لفكر المعتزلة، لهذا سعدت برسالة الدكتوراه التى نال عنها الزميل د. محمود القيعى الدرجة العلمية بامتياز من جامعة القاهرة، وعنوانها: مستويات الحجاج فى إبداع أبى حيان التوحيدى ..
وأوضح القيعى فى رسالته أن نظريات الحجاج، التى تعد أحدث النظريات الحديثة، كانت لازمة لعصر التوحيدى، وكل عصر يؤمن أبناؤه بطرق الإقناع للوصول إلى الحقيقة، مشيرًا إلى ترسخ مفهوم الحجاج والإقناع عند أبى حيان، فكان يضفر خطابه بكل أنواع الحجج حتى يقنع المتلقى ويؤثر فيه، من ذكر أخبار وأحاديث وقرآن وشعر، مع ميل إلى التفصيل بعد الإجمال، واستخدام الاستفهام التقريرى بكثرة، وأحصى الباحث مئات المفردات التى تحدث فيها التوحيدى عن الحجة والبرهان والدليل والإقناع والاستدلال وغيرها. وخلصت الدراسة إلى عدة نتائج منها: إن لأبى حيان منهجًا فى استخدام الصور الفنية المستمدة من عالم الجناس، يتجلى فى العناية بتوليدها (سواء أكانت تشبيهًا أو استعارة) مع حرص على تواليها، راسمًا منها لوحة فنية لا يجد المتلقى معها بدًا من التسليم بما يقوله التوحيدى، وأن دائرة الحجاج واسعة، تسمح بتعدد الآراء والأصوات وصدق النتائج، فحجاج أبى حيان لا يقاس بصدق القضايا التى يتناولها أو كذبها، كما هو الحال فى البرهان، وإنما يقاس بمدى تماسك الخطاب وتضافره وانسجامه.
ولم يفت الباحث توريد أمثلة لأسلوب التوحيدى فى المحاججة، مثل قوله فى كتاب أخلاق الوزيرين: ما وصّلنا- حاطك الله- حديثًا بحديث وكلمة بكلمة إلا لتكثر الفائدة، ويظهر العلم، ويكون ما صرفنا القول فيه مرفودًا بالحجة الناصعة والإمتاع المونق.
لمزيد من مقالات أسامة الألفى رابط دائم: