حققت لنا منصات التواصل الاجتماعى الكثير من الفوائد، فالتواصل مع عدد كبير من الناس أصبح أسهل، وصفحة كل منا بها آلاف الأشخاص من مختلف بلدان العالم، ويمكن كتابة ما يحلو لنا فى أى وقت، ونشره على نطاق واسع، ومتابعة ما يكتبه آخرون، سواء كنا نعرفهم مباشرة أو لا نعرفهم، ويمكن لأى منا معرفة ما يكتبه المشاهير من الفنانين والساسة وغيرهم فى نفس اللحظة، ومعرفة آرائهم وأخبارهم العامة وحتى بعض الجوانب الشخصية، وتوفر لنا منصات التواصل الكثير من المعلومات، ولم يعد بالإمكان الاستغناء عنها.
ورغم كل هذه الفوائد وأخرى كثيرة غيرها، فلا يمكن إنكار أن مواقع التواصل تسببت فى أضرار جسيمة للغاية، سواء لأشخاص عاديين أو مسئولين أو مشاهير أو مؤسسات، وحتى الدول نفسها، فمن كان يتصور مثلا أن دولة مثل الولايات المتحدة يمكن أن تعانى من التأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية بها، عن طريق اختراق الهاكرز لحسابات شخصيات سياسية مثل هيلارى كلينتون، وتنشر من خلالها تسريبات وشائعات تؤثر عليها بالسلب، وتضعف فرصها فى الفوز فى الانتخابات، وأيضا فى التأثيرعلى نتائج استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، وأيضا ما حدث من تأثير على الرأى العام وتوجيهه فى احتجاجات تحولت إلى دمار شامل لدول، وأصبحت منصات التواصل ساحة حربية.
ولا يمكن أن تجد شخصا ممن يتعاملون مع منصات التواصل لا يشكو من سوء استخدام البعض لهذه المنصات، ويضطر الكثيرون لاستخدام الحذف لأشخاص، لتدمر صداقات وعلاقات إنسانية وعلاقات عمل والسبب فى كل ذلك أن هذه المنصات قد تطورت بسرعة فائقة، لكن طريقة استخدامنا لها لم تتطور ولا تحكمها أعراف أو تقاليد أو قوانين مناسبة، فالصحافة والإعلام عموما له ضوابط، يتم تدريسها فى معاهد وكليات الصحافة، وصدرت تشريعات تنظم النشر، بعضها يتعلق بالدولة ومؤسساتها، والتفرقة بين الرأى والتشهير، أما على منصات التواصل فالالتزام بالمعايير المهنية والأخلاقية والقانونية يكون صعبا للغاية لأن الصفحات بالملايين، وما يتم نشره يزيد على مليارات الأخبار والآراء، وإذا تولى القضاء متابعة ما نكتبه على منصات التواصل فسنجد عشرات الملايين من قضايا النشر.
فهناك سب وقذف بدرجات وألفاظ مختلفة، وأصبح لدينا ما نسميه بـ«التنمر»، ولم يعد كثيرون يفرقون بين ما يمكن نشره على منصات التواصل والحياة الشخصية لهم وللآخرين، ولدينا أعداد لا تحصى من الوقائع عن تدمير الحياة الشخصية لرجال وسيدات وشباب بنشر صورة أو معلومة، سواء حقيقية أو محرفة أو كاذبة، فما حدث للفتاة المنتحرة «بسنت» نموذج مؤلم لهذا الاستخدام السيئ لمنصات التواصل، عندما تم نشر صور ملفقة لها، فأقدمت على الانتحار.
ومركز الأزهر العالمى للفتوى الإلكترونية أصدر بيانا حول «اتهام الناس بالباطل، والاحتيال والافتراء والبهتان الذى يؤدى إلى جريمة لا إنسانية وخبيثة، نهى الله عنها، لأنها فحش فى الكذب وفجور فيه، واستغلال للبرامج الحديثة فى ابتزاز الناس بالاتهامات المنتحلة، من خلال الصور الزائفة أو غيرها من الطرق التى يمكن بها الطعن فى أعراض الناس وشرفهم، وهذا إفك بغيض، وإيذاء بالغ وبهتان محرم. ونصح مركز الأزهر بأنه «ينبغى ألا يكون الإنسان متجاوزا لحدود الله، خائضا فى أعراض الناس، إذ هو بذلك يهون فى عيون الخلق، ويسوء مآله عند الخالق سبحانه، بل عليه أن ينشغل بمعالى الأمور مما يعود عليه وعلى مجتمعه بالنَّفع فى الدين والدنيا والآخرة، لا أن ينشغل بصغائرها، وما لا شأن له به».

وإذا كانت مأساة بسنت قد هزتنا، فهناك من المآسى الكثير التى لا نعرفها، وغيرها اعتدنا عليها، حتى أصبحت مألوفة، رغم ما تسببه من تدمير للأشخاص والمؤسسات والمجتمع والدول، فالنميمة الإلكترونية أصبحت منتشرة بشكل واسع، وهناك من أعدوا صفحات ومجموعات خاصة بالنميمة، من فتيات أو شبان تستسهل النميمة، ونشر الصور والمعلومات التى غالبا ما تتخللها أخبار كاذبة، ويمكن أن تكون مختلقة تماما، لتنال من سمعة شاب أو فتاة، وتحولت تلك الصفحات إلى نوع جديد من ألوان الثأر، وكثيرون يلهثون وراء معرفة تلك الأسرار والخفايا ويتلذذون بتناقلها، سواء على صفحاتهم أو داخل مجموعات، وسرعان ما تنتشر، ولم يعد غريبا أن ينشر البعض قصص فسخ خطبة فتاة وشاب أو واقعة طلاق، وتصبح مثارا للقيل والقال، لتسبب آلاما نفسية فادحة لأشخاص لا نعيرهم اهتماما، بل يتم القصاص منهم لأسباب مختلفة، وينضم متطوعون إلى كتائب الإعدام النفسى أو الاجتماعى.
وامتدت تلك الجرائم الأخلاقية إلى المؤسسات وأماكن العمل، والمفروض أن لها نظمها وأعرافها والقوانين التى تحكمها، فمن لديه مشكلة أو مظلمة فلها طرقها التى كانت معروفة، وتحددها نظم المؤسسات، لكن الجديد أن أصبحت منصات التواصل أداة للابتزاز فى المؤسسات وأماكن العمل، وبرع فيها أشخاص يجيدون هذا النوع من التشهير والإساءة كسبيل لتحقيق أغراض شخصية، ويمكن أن يلتقطها آخرون من داخل المؤسسة أو خارجها، ويصبح مكان العمل ساحة أخرى للاحتراب الداخلى بوسائل مستجدة ومسيئة، وإذا رأينا ما تجره من مشكلات وأجواء مسممة فلن نجده إلا وسيلة خبيثة للابتزاز والتشهير الخفى أو الصريح، والانشغال عن المفيد والمجدى بالقصص المختلقة أو المحرفة، لتحقيق مآرب خبيثة، وتختلط القليل من الحقائق بالكثير من الأكاذيب، لتصبح منصات التواصل أقرب إلى منصات القتل المعنوى والإساءات والتشهير والنميمة.
إننا لا نحتاج إلى تشريعات بقدر حاجتنا إلى الوعى والانضباط الذاتى، والاحتكام للمعايير الأخلاقية والدينية، وأن نتخيل أننا يمكن أن نصبح ضحايا لهذا النوع من السلوكيات الرديئة، وأن نستخدم التكنولوجيا والمخترعات الجديدة فيما ينفع الفرد والمجتمع، ويرتقى بالأداء، ويزيد من تماسكنا الاجتماعى، ويعلى من قيمنا الأخلاقية، وأن نترفَّع عن تلك الأساليب الدنيئة، التى تُلقى بنا فى غياهب التردى، وتقتل فينا المشاعر الطيبة، والتى جعلت منصات التواصل ساحة لإنتاج البغض والكراهية والتدمير الذاتى للأفراد والمجتمعات.
لمزيد من مقالات بقلم ــ عـــلاء ثابت رابط دائم: