رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

ما هو أخطر من مشاهد فيلم «أصحاب ولا أعز»

أثار الفيلم الذى تعرضه منصة نيتفلكس على شبكة إنترنت بعنوان «أصحاب ولا أعز» عن الخيانات الزوجية والمثلية الجنسية ضجةً هائلة فى الشارع المصري. الضجة نفسها تشهدها حالياً دولة فنلندا حيث يدور الجدل بشأن اتهام وزيرة سابقة بالتحريض على كراهية المثليين وازدرائهم لأنها نشرت تغريدة حول سماح الكنيسة اللوثرية فى فنلندا بالمثلية الجنسية وأرفقت بها نصاً من الإنجيل يحظر المثلية الجنسية. وما كان من الوزيرة السابقة رداً على هذا الاتهام إلا أن صرّحت بأنها لا تنكر شرف حريتها فى التعبير والدفاع عن الدين.. «أصحاب ولا أعز» هو مجرّد فيلم سينمائى لم يكن الأول ولن يكون الأخير فى إثارة مثل هذه الضجة حول حدود حرية التعبير الفنى. تفاوتت الآراء بين اعتباره فيلماً يمثل تحريضاً على الفجور، وبين كونه ممارسة لحرية التعبير الفني.

سيظل التفاوت فى الرأى حول الفيلم قائماً ما بقيت الاختلافات الثقافية بين المصريين آخذةً فى التصاعد والتعمق لدرجة أن المرء يكاد يشعر أن المصريين أصبحوا مجتمعين لا مجتمعاً واحداً. شيء من هذا الاختلاف يحدث فى مجتمعات أخرى لكن ليس بالحدة ذاتها أو التشظى نفسه. تابعت ما كُتب وقيل عن الفيلم وشاهدته فاكتشفت أنه فيلم رديء وممل من الناحية الفنية. الجديد الوحيد فيه فنياً هو فكرته، وحتى هذه الفكرة سبق معالجتها فى فيلم إيطالي. لم يحقق الفيلم للمشاركين فيه أى قيمة فنية لكن الشيء الوحيد الذى ربحوه هو ما حصلوا عليه من أموال من شركة نيتفلكس. وعموماً فالناقدون السينمائيون هم الأقدر على نقد الفيلم بالرؤية الفنية، أما الرؤية الفكرية فهى تشى بالأخطر فيما وراء هذا الفيلم.

الأخطر أولاً أن العولمة صارت واقعاً كل شيء فيه أصبح عابراً للحدود بلا استئذان وتبدو منصة نيتفلكس للأفلام والدراما أحد تجلياتها. وإذا كنا نرى أن هذا الفيلم وبالتأكيد غيره من الأفلام مستقبلاً يمثل تجاوزاً لحرية التعبير الفنى أو مساساً بالنظام العام والآداب فإن الدولة ممثلة فى وزارة الثقافة مدعوة لاستعادة دورها القديم فى إنتاج فن سينمائى بديل وراق وتنافسى معبر عن مشروعها الثقافى والوطنى (إذا كان لها حقاً من مشروع بخلاف مكافحة التطرف) فالفيلم يُرد عليه بفيلم والكتاب بكتاب والأغنية بأغنية.

والأخطر ثانياً أن الضجة المثارة تكشف عن غياب التعايش بين حريات الرأى والتعبير فى مجتمعنا وازدهار ثقافة مصادرة حرية الطرف الآخر. قلة قليلة فيما أُتيح لى متابعته تقبل بهذا التعايش وتؤمن بحق المشاركين فى الفيلم فى ممارسة حقهم فى التعبير الفنى بقدر احترامها لحق الآخرين فى انتقاد الفيلم والاعتراض عليه. لكن الكثرة الغالبة ترى أن المشاركين فى الفيلم قد تجاوزوا حرية التعبير الفنى لأن فى الفيلم خروجاً على قيم المجتمع وتحريضاً على الفجور.

المسألة الدقيقة هنا هل يروّج الفيلم ويُحبّذ الدعوة إلى الفجور أم أنه يرصد واقعاً اجتماعياً للخيانات الزوجية والمثلية والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج من خلال الفتاة (القاصر) التى تحتفظ فى حقيبتها بواق ذكرى يتفهم الأب تماماً حريتها بشأنه فيما يعتبر تحبيذاً وتشجيعاً. يقول المؤيدون للفيلم إنه ليس للفن رسالة أخلاقية ومهمته أن يعبر عن قضايا المجتمع ومشكلاته. والواقع أن هذا الرأى قد يصلح لتقييم دور الأفلام الوثائقية أما الفن السينمائى فهو بطبيعته فنٌ مؤثر وملهم، وبالتالى فإنه قادر بالفعل على التأثير بل والتحريض. ولهذا فالمعترضون على الفيلم معذورون حين يرون فى عبارات قيلت على لسان المشاركين فيه تأييداً للعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج والمثلية الجنسية. هنا بالتحديد يكمن وجه الاعتراض والنقد. التاريخ والعالم كله والمجتمع المصرى نفسه لا يخلو من السلوكيات التى يعالجها الفيلم، لكن ثمة فارق بين الاعتراف بوجودها وبين تحبيذها. والتحبيذ يعنى تقديم السلوك بشكل إيجابى، وهو عنصر من عناصر التحريض بما يعنى ضمناً الدعوة إلى ممارسته.

الأخطر ثالثاً أن الفيلم كاشف عن ازدواجية لدى المعترضين عليه والمؤيدين له على حد سواء. فالمعترضون عليه اكتشفوا فى أنفسهم فجأة الغيرة على الأخلاق والفضيلة وكأن الكثير من سلوكيات المجتمع تلتزم حقاً بالأخلاق والفضيلة والقيم الدينية الصحيحة، وهذا موضع شكٌ كبير. أما المؤيدون للفيلم والمشاركون فيه بالطبع فهم يمارسون حريتهم فى التعبير الفنى (بالطول والعرض) بشأن قضايا بعينها تكاد تدور كلها حول الجنس والعنف والجريمة لأنها بالنسبة لهم قضايا مأمونة الجانب ومؤكدة الربح بدلاً من معالجة القضايا الاجتماعية والسياسية الحقيقية التى يزخر بها المجتمع. الحرية التى تشغل هؤلاء هى الحرية الجنسية، أما الحريات الأخرى التى تصنع نهضة الأمم وتقدمها فهى أمر لا يشغلهم وخارج دائرة اهتماماتهم الفنية.

والأخطر رابعاً أن للمشاركين فى الفيلم والمؤيدين له فهماً يتسم بالقصور فى مسألة الحرية. فهو يتخذون من النموذج الغربى للحرية بوصلة اتجاه ويتمسحون بها وكأن مجتمعهم قد قطع تاريخياً كل الأشواط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى قطعها الغرب. بهذا الفهم السطحى للحرية يتصورون أن الدفاع عن الحرية الجنسية بكل أشكالها المختلفة يجعلهم أصحاب قضية ومبدأ ناسين أن هناك ألف قضية وقضية مجتمعية جديرة بالتعبير عنها من خلال الفن السينمائى وكل الفنون الأخرى. لكن الظاهر أن هؤلاء باحثون عن المال والشهرة بأكثر مما يبحثون عن تبنى قضايا الفقراء والبسطاء والمظلومين الذين يعيشون على هامش الحياة. الأمر على عكس ذلك لدى الكثير من الفنانين الغربيين الذين يدهشوننا بمبادراتهم ومواقفهم فى تبنى قيم العدل والتعاطف والتضامن حتى مع البشر خارج بلدانهم.

والأخطر خامساً هو ادعاء البعض بأنه ليس للفن رسالة أخلاقية أو قيمية أو إنسانية أو وطنية، وهو ادعاء قاصر لأن الفن كوسيلة مؤثرة وملهمة للتغيير يجب أن يكون فى مراحل تاريخية معينة تمر بها الشعوب والأوطان صاحب رسالة. معروف أن الجدل حول دور الفن تتنازعه رؤيتان الأولى هى الفن للفن، والثانية هى الفن صاحب الدور الاجتماعى وتغيير الإنسان إلى الأفضل. وفى البلدان المتقدمة التى استوفت أركان وشروط تقدمها قد تبدو رؤية الفن للفن مقبولة بعض الشيء، أما فى البلدان التى ترزح تحت نير الفقر والحاجة والأمية والتخلف فإن الفن يصبح طاقة منيرة هائلة للتأثير والإلهام، وتغيير الناس والواقع إلى الأفضل. وهو ما نعبر عنه أحياناً بقيم الحق والخير والجمال.

ليس معنى هذا أن يكون الفن خطاباً وعظياً لأن الفن الوعظى لا يصبح فناً ولا يستحق اسم الفن، المقصود أن تستخدم عناصر الفن السينمائى من قصة وحوار وأداء وتصوير وموسيقى فى معالجة قضايا الإنسان الجوهرية التى تهم فى الحالة المصرية 90% من أفراد المجتمع بتوظيف قوة الإلهام الكامنة فيه والتى تتسلل إلى روح وعقل المشاهد فتشحذهما إما للتغلب على معاناتهم الإنسانية وإما توقاً وطموحاً لتغييرها.

فى نهاية المطاف نحن نحتاج إلى تعايش بين حريات الرأى والتعبير وليس إلى مغالبة أو تحقير بينهما لاسيّما أن موضوع الخلاف هو فيلم سينمائى رديء. أما جوهر الأمر كله فهو أننا نعيش أزمة يبدو فيها الفن المصرى (فى معظمه) وسيلة هدم لا بناء.

----------------------------

> أستاذ القانون الجنائى ــ جامعة الإسكندرية


لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم

رابط دائم: