فى المعركة العنيفة التى دارت رحاها بين الشيخ على عبدالرازق حين أصدر كتابه «الاسلام وأصول الحكم» وبين الرجعية السياسية والدينية وعلى رأسها الملك فؤاد .. من الذى انتصر؟ كان الملك فؤاد ومعه جماعات من أصحاب الأطيان ومن رجال الأزهر قد رأوا فى إلغاء الخلافة الاسلامية فى تركيا على يد كمال أتاتورك فرصة ذهبية يستطيعون أن ينتهزوها ويحققوا فيها الكثير لأنفسهم ويتغلبوا على خصومهم من الزعماء السياسيين الذين يقودون الحركة الوطنية ومن المثقفين الذين يطالبون بالديمقراطية ويخاطبون الرأى العام .
إذ كانت مصر فى تلك السنوات التى أعقبت ثورة 1919 تمر بمرحلة حاسمة من تاريخها الحديث اشتد فيها الصراع بين الملك ومن يرتبطون بعرشه من ناحية وبين سعد زغلول وجماهير المصريين الذين لبوا نداءه وساروا وراءه فى مصر كلها يطالبون الإنجليز المحتلين بالجلاء التام، ويطالبون الملك بالدستور، أى بأن يكون ملكا فحسب يملك ولا يحكم، لأنه حين يجمع بين الملك والحكم يكون طاغية، والمصريون الذين ثاروا على الإنجليز يطلبون الحرية لبلادهم ولأنفسهم، ويحاربون الطغاة كما يحاربون الغزاة، وهكذا اشتعلت وظلت مشتعلة حتى اضطر الإنجليز لإصدار تصريح 28 فبراير سنة 1922 وفيه يقررون إلغاء الحماية البريطانية ويعترفون بمصر مملكة مستقلة.
ـ أتمنى هنا أن تكون الجهات المسئولة قد أعدت ما يجب إعداده لنحتفل فى الشهر القادم بمرور مائة عام على صدور هذا التصريح الذى كان أول خطوة فى طريقنا إلى الاستقلال التام، وكان بالتالى مقدمة لصدور دستور 1923 الذى نص على أن جميع السلطات مصدرها الأمة، وأن حرية الاعتقاد مطلقة، وأن حرية الرأى مكفولة. هذا الانتصار الأول الذى حققه المصريون بعد ثورة 1919 نشأ عنه الصراع على السلطة بين سعد زغلول زعيم الأمة التى جعلها الدستور مصدر جميع السلطات وبين الملك الذى أعطاه الدستور الحق فى حل مجلس النواب، وهو الحق الذى حوله الملك إلى باطل صرف واستعمله بفظاظة وعدوانية، ففى الانتخابات التى أجريت فى فبراير عام 1925 فاز حزب الوفد وعلى رأسه سعد زغلول بأغلبية كاسحة لم تسمح لمرشحى الأقليات الحزبية القريبة من الملك بالحصول إلا على الفتات، وبدت هذه النتيجة وكأن المصريين كانوا فى هذه الانتخابات مخيرين بين سعد زغلول والملك فانتخبوا سعد وأسقطوا الملك الذى لم يستطع أن يتحمل هذه النتيجة فلم تمض إلا عشرة أيام حتى أصدر قراره بحل المجلس فأثار موجة عارمة من الاستياء والاستنكار شعر معها هو ورجاله الملتفون حوله بالخوف. وهنا بدا لهم كأن الخلافة هى طوق النجاة، وكأنها ألغيت فى تركيا لتكون حلا فى مصر، فمصر التى وقفت كلها مع سعد زغلول ضد فؤاد الملك لن تقف كلها معه ضد فؤاد أمير المؤمنين. وإذا كان المسلمون فى مصر وفى خارج مصر سيبايعون ملك مصر رئيسا دينيا لهم فالملك لن يكون الرابح الوحيد، وإنما سيشعر معه المصريون بالفخر والاعتزاز، لأن مصر التى فقدت استقلالها على أيدى الأتراك العثمانيين فى القرن السادس عشر وأصبحت ولاية فى إمبراطوريتهم أربعة قرون كاملة ستصبح لو انتقلت إليها الخلافة زعيمة العالم الإسلامى وعاصمة المسلمين. وهكذا انخرط الملكيون فى العمل، ملأوا الصحف والمجلات التابعة لهم بالمقالات والفتاوى التى يقولون فيها إن المسلمين لم يعودوا مسلمين بعد إلغاء الخلافة، وأنهم عادوا إلى الجاهلية من جديد، وأنهم آثمون حتى يبايعوا خليفة آخر. وأنشأوا مؤتمرا سموه «المؤتمر الإسلامى العام للخلافة» يدعو لمبايعة أحد الملوك أو الأمراء المسلمين بالخلافة، وأصدروا مجلة تنطق بلسان هذا المؤتمر وتتابع نشاطه فى مصر وفى جميع أنحاء العالم الإسلامى، وبدا كأن حلمهم سوف يتحقق وإذا بمصر التى وقفت مع سعد زغلول ضد الملك فؤاد دفاعا عن الديمقراطية تكرر وقفتها ضده لكن مع رجل آخر أصدر كتابا فى مائة صفحة وعشر صفحات بعنوان «الاسلام وأصول الحكم» دفاعا عن الديمقراطية ودفاعا عن الإسلام الذى أراد الملك وأتباعه أن يجعلوه ستارا يمارسون من خلفه طغيانهم دون أن يحاسبهم أحد. ومن ذا الذى سيجرؤ على محاسبة من يزعم أنه «خليفة رسول الله»، بل «خليفة الله» كما كان عبدالملك بن مروان الخليفة الأموى وأنصاره يقولون عنه، و«سلطان الله فى أرضه» كما كان المنصور الخليفة العباسى يقول عن نفسه؟ وليس للمواطنين الذين لن يكونوا فى ظل هذا السلطان مواطنين وإنما سيعودون رعية مستعبدة ليس لها إلا أن تسمع وتطيع، وإلا فالدواء حاضر يداوى به الخليفة من يعترض أو من يظن أنه قد يعترض ولو كان واحدا من رجاله المقربين أو حتى أخا شقيقا. ونحن نعرف ما صنعه الأمويون بالعلويين، وما صنعه العباسيون بالأمويين والبرامكة وغيرهم.. وفى هذا يقول أحمد أمين فى «ضحى الاسلام» «قل أن نرى وزيرا فى العصر العباسى مات حتف أنفه»، وما صنعه العثمانيون بأعمامهم وإخوتهم، لا لأنهم اعترضوا بل لأنهم كانوا مرشحين للخلافة كما فعل مراد الثالث الذى قتل إخوته الأربعة حين وصل إلى السلطة!من هنا نفهم المعنى الحقيقى للموقف الذى اتخذه الاسلام من الحكم. فالإسلام لا يطلب إلا العدل «..وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل..». والعدل يعنى المساواة أمام القانون.
ويعنى حرية الإرادة وهى الشرط الذى لابد أن يتوافر للإنسان كى يختار. لكن الإسلام لا يحدد شكلا للحكم ولا ينحاز لنظام، وإنما يترك هذا للناس ، لأن القضايا تختلف، والظروف تتغير، والنظم تتطور والذى كان يعتبر حقا فى زمن قد لا يعتبر كذلك فى زمن آخر ، والسياسة إذن شأن من شئون الدنيا التى قال لنا الرسول صلى الله عليه وسلم إننا أعلم بها.
وهذا ما تحقق فى خلافة الراشدين التى نستطيع أن نعتبرها صورة أولى من صور الديمقراطية . ونستطيع بالتالى أن نقول إن النظام الديمقراطى الراهن هو العودة الصحيحة للروح التى كانت سائدة فى أيام الخلفاء الراشدين. وهذا ما فهمه المصريون الذين ثاروا مع أحمد عرابى ضد الخديو توفيق، ووقفوا مع سعد زغلول ضد الملك فؤاد، ووقفوا مع الشيخ على عبدالرازق ضد المشايخ الذين حاكموه وعاقبوه، لكنه هو الذى انتصر عليهم وعلى الملك.
فإلى الأربعاء القادم.
لمزيد من مقالات أحمد عبدالمعطى حجازى رابط دائم: