رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

دور العقل فى استنباط الأحكام الشرعية

الاجتهاد هو بذل الفقيه وسعه فى استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها الأصيلة، وهى الكتاب والسنة، وهو عملٌ دقيقٌ يجمع بين النصِّ الشرعى والعقلِ؛ فالعقل وحده ليس مصدرًا للتشريع، إذ مصادر التشريع هى الكتاب والسنة وما تفرَّع عليهما، وعملية استنباط الأحكام عمليةٌ عقليةٌ شديدة التعقيد لا تستغنى بأى حالٍ عن إعمال العقل.

لقد كان العقل موجودًا حاضرًا بقوة فى استنباط الحكم الشرعى منذ عصر الصحابة وحتى يومنا هذا، وقد تمثَّل هذا أظهَرَ ما يكون فى علم أصول الفقه، فإنه من العلوم التى امتزج فيها النقل بالعقل، وإنه وإن كان قد دُوِّنَ فى عصر الأئمة المجتهدين على يد الإمام الشافعى إلا أن أصول الفقه بمعنى مناهج وطرق الاستنباط كان موجودًا فى صورة ملكاتٍ ومواهب وعلوم راسخة فى عقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تكون علمًا مُدوَّنًا، وأكبر دليل على ذلك ما رواه الإمام مالك فى الموطأ أن عثمان بن عفان أُتى بامرأةٍ قد ولدت فى ستة أشهرٍ، فأمر بها أن تُرجَم، فقال له على بن أبى طالبٍ: «ليس ذلك عليها؛ إن الله تبارك وتعالى يقول فى كتابه: «وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا»، وقال: «والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة»، فالحمل يكون ستة أشهرٍ فلا رجم عليها».

وكثيرا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّمُ أصحابَه إعمالَ العقل فى النص من أجل أن تتم عملية استنباطِ الحكم على نحوٍ صحيح موافقٍ للمقصد الشرعى الذى سيق له النص بعيدًا عن الفهم الظاهرى السطحى الذى لا يُنتِجُ حكمًا صحيحًا؛ فقد روى الإمام أحمد عن عدى بن حاتمٍ قال: لما نزلت هذه الآية: «وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود» [البقرة: 187] قال: «عمدتُ إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض، فجعلتهما تحت وسادي»، قال: «ثم جعلت أنظر إليهما فلا تَبيَّنَ لى الأسود من الأبيض ولا الأبيض من الأسود، فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذى صنعتُ»، فقال: «إن كان وسادك إذًا لعريضًا؛ إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل».

وقد كان للتعمُّق العقلى فى فهم النص الشرعى أثرٌ بالغٌ فى تكوين مدرسة الإمام على وابن مسعود وعائشة رضى الله عنها وعددٍ من الصحابة، ثم أثَّرَت مناهج الصحابة فيمن جاء بعدهم من السلف الصالح؛ ومن أبرزهم: ربيعة بن عبدالرحمن شيخ الإمام مالك الذى لُقِّبَ بربيعة الرأى، وهو مفتى المدينة وشيخها، والذى كان مشهورًا بشدة الذكاء ورجاحة العقل، وكان القاسم بن محمد إذا سُئِلَ عن شيء قال: «سلوا هذا لربيعة». وربيعة يُعدًّ من تلاميذه، وعن يحيى بن سعيد قال: «ما رأيتُ أحدًا أفطن من ربيعة»، وقال عبيد الله بن عمر فى ربيعة: «هو صاحب معضلاتنا وأعلمنا وأفضلنا»، وهذا الفقيه العظيم المحدِّث الثقة على شدة حفظه للحديث وإتقانه له كان يتوسع فى الاجتهاد واستعمال العقل والرأى ولا يتوقف عند القول بظاهر النص، وربما سبَّبَ ذلك له جفوةً من بعض أهل الحديث؛ إلا أن هذه النزعة العقلية الرائعة قد أثَّرت فى منهج استنباط الأحكام لتلميذه النجيب الإمام مالك إمام أهل المدينة الذى سرت إليه طريقة شيخه فأصَّلَ للعمل بالمصلحة وجعلها من مصادر التشريع، وأصَّلَ كذلك لاعتبار عمل أهل المدينة مصدرًا للتشريع يُخصِّصً أو ينسخ خبر الواحد إذا خالفه، روى ابن عبدالبر فى الاستذكار عن مالكٍ، وذُكر له حديث «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا»؛ فقال: «قد جاء هذا الحديث، ولعله أن يكون شيئًا قد تُرك فلم يُعمَل به...»، وقال أيضًا: «دفع مالكٌ هذا الحديث بإجماع أهل المدينة على معنى الخلاف به؛ فلما لم ير أحدًا يعمل به قال ذلك القول، وإجماعهم عنده حجة».

لقد نظر الإمام مالك إلى إجماع أهل المدينة على أنه التواتر العملى المتوارث المعتمد عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وهو فى المدينة المنورة، فاعتبر ما عليه إجماع أهل المدينة هو الصورة النهائية للتشريع الناسخة لما يعارضها لأن المتأخر هو الذى ينسخ المتقدم، وأما النزعة العقلية عند تلميذه الإمام محمد بن إدريس الشافعى فقد تبلورت بشكل كبير عندما ذهب إلى العراق ووجد معارضة قوية من مدرسة أهل الرأى لمدرسة وآراء الإمام مالك فانتصب للمناظرة والنقاش دفاعًا عن منهج شيخه إلا أنه بدا له أثناء المناظرة والمباحثة مع رؤساء مدرسة الرأى شيء ملفت للنظر؛ فقد لاحظ أن كفة شيخه ترجح تارة فى المناظرة وتارة أخرى ترجح كفة مناظريه من أهل الرأي؛ فبدأ يلتفت إلى معان أعمق فى الدلالة من الخلافات الفقهية الفرعية، وهى الأسس المنهجية والأصولية التى بنى كل مجتهد منهم فقهه وكوَّن من خلالها رأيه، وأثناء عملية استكشاف مناهج التفكير والتأصيل تلك كشف الإمام الشافعى عن كنز عظيم كان مخبئًا مطويًّا فى عقول الصحابة وأئمة السلف الصالح والعلماء المجتهدين، هذا الكنز هو علم أصول الفقه، وهو أكبر عمل عقلى فى تاريخ الأمة الإسلامية، أظهر فيه الإمام الشافعى فى كتابه الرسالة منهج فهم دلالات الألفاظ عند المجتهدين، وعن العلاقات التى تنشأ بين النصوص التى ظاهرها التعارض، مثل تقييد المطلق أو تخصيص العام، أو بيان المجمل، أو النسخ إذا لم يمكن فك التعارض، وكشف فى الرسالة عن قوانين وقواعد القياس الفقهى وطرق التعليل، وهذا الذى ذكرناه كله فى تغلغل المنهج العقلى فى مناهج المجتهدين إنما هو عن الدور الكبير الذى لعبه العقل فى استنباط الأحكام وفهم الكتاب والسنة، وفى مناهج الصحابة وأهل الحديث إلى الإمام الشافعى، وأما عن مدرسة أهل الرأى فتحتاج إلى كلام آخر مستقل.

-------------------------

 مفتى الجمهورية


لمزيد من مقالات د. شوقى علام

رابط دائم: