بمزيد من الأسى والأسف وبمشاعر يعصف بها الغضب ويسكنها الحزن والمرارة تستقبل إسرائيل الأنباء المتسربة من عواصم الغرب تعززها تقديرات مخابراتها وخارجيتها بشأن احتمالات التوصل إلى اتفاق جديد حول الملف النووى الإيرانى. تفضى حسابات إسرائيل وتقديراتها إلى أن الاتفاق قادم لا ريب فيه، وأن إيران وأمريكا لا تريدان الحرب ولا تسعيان إليها ومن مصلحتهما الالتقاء فى منتصف الطريق. أما ما يجرى فى فيينا حاليا فهى المساومات المعتادة بينهما للحصول على أقصى قدر من المكاسب أو التنازلات. وبما يتيح لكل طرف تسويق الاتفاق الجديد محليا كنوع من الانجاز.
خلال الأسبوع الماضى اقر وزير الخارجية الإسرائيلى مائير لابيد بهذه النتيجة مؤكدا أن المفاوضات ستسفر عن العودة لاتفاق 2015 مع بعض التعديلات، أو إبرام اتفاق مؤقت يلبى المطالب العاجلة لكل طرف لحين التوصل لآخر دائم وموسع. بالطبع لا تخفى إسرائيل غضبها وقلقها من توجه الإدارة الأمريكية. والخلاف بين الجانبين لم يعد خافيا ويعيد للأذهان الأزمة العنيفة بين اوباما ونيتانياهو الذى قاد حملة مسعورة وفاشلة لمنع واشنطن من التوقيع على اتفاق 2015 قبل أن ينجح فى إقناع ترامب بالانسحاب منه فى 2018. الفارق الوحيد بين الأزمتين هو أن الحكومة الإسرائيلية الحالية تلتزم بعدم توجيه انتقادات علنية للرئيس جو بايدن وسياسته.
ليس من المستغرب أن يستمر الخلاف حول إيران رغم تغيير القيادات الحاكمة فى الجانبين ذلك أنه يتعلق فى جوهره بمفهوم كل طرف لطبيعة التهديد الذى تمثله إيران النووية. أمريكا من جانبها لا ترى فى امتلاك إيران أو غيرها للتكنولوجيا النووية تهديدا لها ما دامت مقصورة على الاستخدام السلمى.
الأمر مختلف بالنسبة لإسرائيل التى تعتبر أن مجرد امتلاك إيران أو أى دولة عربية أو إسلامية التكنولوجيا النووية، وليس السلاح النووى، هو تهديد وجودى. وما تصفه بوصول إيران إلى «عتبة الباب النووي» هو خط احمر لا يمكن السماح به. طبقت إسرائيل هذه الرؤية بمفهومها الواسع لأمنها القومى فى تعاملها مع الدول العربية بدءا من اغتيالها بانتظام ودأب علماء الذرة إلى قصفها المفاعلين العراقى فى 1981 والسورى 2007.
الكابوس الذى تعيشه إسرائيل هو أن إيران تخطت بالفعل العتبة النووية التى لم تسمح لأحد قط فى المنطقة بتجاوزها. الأسوأ أن الضربة العسكرية حتى وإن عرقلت برنامجها النووى لن توقف مشروعها لأنها أصبحت تملك المعرفة والخبرة والكوادر العلمية.
إزاء تلك النتيجة لم يعد أمام إسرائيل سوى التعامل مع الأمر الواقع، لذلك طورت إستراتيجيتها بالتوقف عن محاولة إثناء أمريكا عن التوقيع على الاتفاق إلى مناقشة شروطه. فى مقدمة أهدافها كذلك الحصول على تعويضات أو مكافآت أمريكية فى صورة أسلحة أكثر تطورا. والاهم ضمانات بعدم الضغط عليها لمنعها من استخدام القوة ضد إيران مستقبلا. لهذا السبب تكرر دائما أنها ليست طرفا فى الاتفاق ومن ثم غير ملزمة بنصوصه.
لكن لكى تكون القراءة فى المشهد السياسى الإسرائيلى أكثر دقة وتكاملا لا بد من الإشارة إلى الانقسام الموجود حاليا، لاسيما بين جناحى الحكم المدنى والعسكرى، بشأن إدارة أزمة الملف الإيرانى طوال السنوات الماضية. يتوحد الإسرائيليون حول هدف منع إيران من امتلاك سلاح نووى. يلتقون أيضا فى رغبتهم بتدمير قدراتها سواء بضربات محدودة أو بحرب شاملة وهو الخيار الأفضل بشرط أن تقودها أمريكا. غير أنهم يختلفون حول جدوى ومحصلة الحملة الهستيرية التى قادها نيتانياهو ضد الاتفاق وأسفرت فى النهاية عن انسحاب أمريكا منه. اليوم وبعد 3 سنوات من الانسحاب لم تحقق إسرائيل أى مكسب بل جاءت كل النتائج عكسية رغم سياسة «أقصى عقوبات» التى طبقها ترامب. طورت إيران برنامجها النووى ورفعت تخصيب اليورانيوم إلى نسبة 60% بينما كان الاتفاق يلزمها بنسبة لا تزيد على 3٫76% وضاعفت أجهزة الطرد المركزى وأنتجت جيلا أكثر تطورا منها. طورت برنامجها الصاروخى، واستمر تمددها الإقليمى.
لم يعد الخبراء العسكريون والسياسيون الإسرائيليون يترددون فى انتقاد الانسحاب وبما يعنى بداهة رفضهم لموقف الحكومة الحالية المعارض لأى اتفاق جديد. الأمثلة كثيرة منه ما نسب قبل أيام للجنرال اهارون حاليفا قائد إدارة العمليات بالجيش الذى اعتبر أن الاتفاق هو أهون الشرور لأن بقاء إيران تحت الرقابة الدولية الصارمة أفضل من منحها فرصة للقتل على حد قوله. وجاءت تصريحات زملائه ممن تركوا مناصبهم أكثر قوة، منهم الجنرال اهارون زئيفى الرئيس السابق للمخابرات الذى قال لصحيفة جيروزاليم بوست إن صفقة جديدة مع إيران يرجح أن تكون أسوأ من اتفاق 2015 ومع ذلك ستكون أفضل من لا شيء. أما الجنرال عاموس يادلين وهو رئيس سابق للمخابرات العسكرية فكان أكثر وضوحا خلال حديثه مع القناة الثانية عشرة حينما أكد أن الطريق الذى سلكه نيتانياهو جعل إيران قريبة للغاية من صنع القنبلة وأن ما كان يبعدها عن ذلك هو الاتفاق النووى.
لمن يريد الاستزادة نشير أيضا إلى تصريح مهم للجنرال موشيه يعلون وزير الدفاع السابق الذى وصف الانسحاب بأنه خطأ تاريخى قدم لإيران ذريعة للمضى فى مشروعها وأصبحت فى أقرب مرحلة لتصبح دولة «عتبة نووية». الانسحاب حررها من كل القيود على حد وصف الجنرال جادى ايزينكوت رئيس الأركان السابق. ويلخص تامير باردو المدير السابق للموساد أراء من سبقوه حول الانسحاب بكلمة واحدة هى أنه كارثة.
الاتفاق الذى تبدو ولادته متعثرة حتى الآن لو قدر له أن يرى النور سيعمق الانقسام داخل إسرائيل، لكن هذه ليست النهاية بالضرورة فلن تدخر وسعا لإفشاله سواء فى ظل حكم بايدن أو من يخلفه. ولن تتخلى عن حلمها وأملها ورغبتها فى تدمير إيران وليس فقط منشآتها النووية. الحرب كانت دائما حلا لكل مشاكل إسرائيل بما فيها التناقضات الصارخة فى تركيبة بنيتها الاجتماعية وانقساماتها السياسية الحادة. فإذا لم تكن الحرب ممكنة مع إيران اليوم فهى متاحة مع غيرها. قريبا سنعرف إلى من تصوب مدافعها.
لمزيد من مقالات عاصم عبدالخالق رابط دائم: