رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الفجوة بين التمويل والإيرادات

تحت هذا العنوان أصدر معهدا التخطيط القومى بالقاهرة والعربى للتخطيط بالكويت الإصدار الخامس من تقرير التنمية العربية حيث حاول التصدى بالرصد والتحليل لمخاطر تنامى المديونية العربية خاصة بعد تزايد مخزون الدين لدى البلدان العربية بشكل ملحوظ خلال العقد الحالى مدفوعا بعجز الموازنات العامة وعدم استقرار الأسعار فى الأسواق العالمية وضعف معدلات الاستثمار المحلية وكلها أمور أدت الى اتساع الفجوة التمويلية مقابل العجز عن تعبئة الإيرادات المحلية والمدخرات مما يدفعها نحو المزيد من الاقتراض الخارجى والداخلي.

ويأتى اصدار التقرير متزامنا مع ما حذرت منه كل المؤسسات المالية الدولية من مخاطر تراكم المديونية واعبائها الامر الذى دفع بمديرة صندوق النقد الدولى الى التحذير من انهيار اقتصادى شامل لدى بعض البلدان الأكثر مديونية، إذا لم تتدخل الجهات الدائنة لإعادة الجدولة وتعليق الفوائد او الغائها.

فى هذا السياق يركز التقرير على ثلاثة محاور رئيسية هى واقع ومسببات المديونية فى الدول العربية وقدرة الدول على تحمل أعباء المديونية وسبل المواجهة، ويرى ان هناك أسبابا تقليدية لزيادة المديونية تتمثل فى فجوة الموارد المحلية (الفجوة بين الادخار والاستثمار) بالإضافة الى عجز الموازنة والعجز الجارى فى ميزان المدفوعات فضلا عن عوامل هيكلية أخرى تتمثل فى عدم مرونة هيكل الانفاق العام. وضعف الحيز المالي.

كما أوضح التقرير التغير فى هيكل الدائنين والاعتماد أكثر على السوق المحلية والعالمية للاقتراض، وهنا يطرح التساؤل عن المفاضلة بين الدين الداخلى والخارجى حيث يشير الى أن المسألة تتوقف على التكلفة والمخاطر ومدى تطور النظام المالى المحلى والأدوات المالية. ويرى التقرير ان المديونية الحالية تستنزف الموارد المالية فى خدمة الدين بدلا من توجيهها الى الانفاق الاجتماعى كالصحة والتعليم والضمان الاجتماعى والبنية الأساسية. مما يؤدى الى اضعاف النمو الاقتصادى والأداء التنموي، كما ان زيادة الاعتماد على المديونية كوسيلة لتمويل التنمية يؤدى الى الحلقة المفرغة للمديونية، او ما يطلق عليه مصيدة الديون، حيث يتوجه الدين الى الانفاق الجارى مما يصعب من القدرة على السداد ومن ثم المزيد من الاستدانة لسد العجز فى الموازنات.

من هذا المنطلق يقترح التقرير خمسة مسارات متكاملة لمعالجة الازمة تكمن فى تعزيز قوة وجودة النمو الاقتصادى ويقصد به النمو الذى يوجد فرص عمل لائقة ويحارب الفقر وبالتالى التحول تدريجيا من اقتصاد مبنى على الموارد الطبيعية الى اقتصاد يتمتع بالمناعة ويبنى على المعرفة والابتكار. فضلا عن تطبيق السياسات الانكماشية بحذر وضبط الانفاق الحكومي. جنبا الى جنب مع اصلاح الإدارة المالية الحكومية من خلال إعادة ترتيب القواعد والإجراءات الحاكمة للمالية العامة، مع حوكمة إدارة الدين العامة من خلال اعتماد استراتيجية طويلة المدى قادرة على التعامل مع محفظة الدين وفق النظم الحديثة لضمان المساءلة. مع تطوير الأسواق والمؤسسات المالية لتعزيز قدرتها على تعبئة المدخرات الوطنية والعالمية بكفاءة من خلال التوجه نحو الأدوات التمويلية البديلة والتى تسمح بإعادة جدولة الدين القائم بالتمويل البديل مثل الصكوك الإسلامية والشراكة بين القطاعين الخاص والعام، والتمويل الجماعي.

ومما يؤخذ على التقرير المطالبة بسياسات للتقشف لدى الدول العربية تلك السياسة التى ثبت فشلها تماما حيث تقوم على فرضية أساسية مفادها ضرورة خفض الإنفاق العام حتى نتمكن من إعادة التوازن المالى للموازنة. والواقع أن دعاة هذه السياسة يعتمدون على حجة واحدة فقط إذا كان الانكماش المالي جزءاً من برنامج جدير بالثقة لتقليص العجز والديون ويهدف إلى الحد من حصة الحكومة فى الناتج المحلى الإجمالى بشكل دائم، فإن توقعات عالم المال والأعمال سوف تلقى تشجيعاً هائلاً وتؤدى إلى المزيد من الثقة فى الاقتصاد، وبالتالى المزيد من الاستثمار وهو ما يعوض الأثر الناجم عن انكماش الطلب الناتج عن خفض الإنفاق العام. ويؤدى إلى نمو أسرع فى الاقتصاد مقارنة بالنمو فى حالة عدم حدوث التصحيح المالى عن طريق الإنفاق العام، وهو المنهج الذى اصطلح على تسميته التقشف التوسعي، ويحظى بقبول لدى صندوق النقد ومن سار على نهجه.

وقد بدأت بالفعل إعادة النظر فى هذه السياسة، وظهر العديد من الدراسات التى حذرت منها مثل تقرير الاونكتاد لعام 2017 الذى يدعو إلى إعادة النظر فى هذه المسألة، لأنها غير مجدية ولها تأثير سلبى على النمو وتوزيع الدخل. وذلك لأنها تعمل فى إطار مجموعة محددة للغاية من الشروط، وتفشل فشلاً ذريعاً عندما تكون هذه الظروف غائبة. وهناك العديد من الدراسات التى أكدت ذلك، خاصة ما قام بها المفكر الاقتصادى بول كروجمان، بل إن صندوق النقد الدولى ذاته تراجع عن هذه المسألة حيث نشر دراسة بعنوان الليبرالية الجديدة هل شابها الإفراط؟ انتقدت الأعمدة الأساسية التى تقوم عليها كل برامجه الإصلاحية فيما يتعلق بالسياسة المالية، حيث ترى أن سياسة التقشف التى كان يدعو إليها عن طريق تخفيض النفقات العامة، خاصة على بعض الجوانب الاجتماعية كالأجور والدعم، قد أدت فى النهاية إلى المزيد من عدم المساواة وسوء توزيع الدخول، بل أقر بأن هناك إفراطا شديدا فى تخفيض الموازنات مما أدى إلى نتائج عكسية أضرت بأهداف النمو والعدالة الاجتماعية وحتى استمرارية السياسة المالية ذاتها. وترى كريستين لا جارد أن سياسة الإيرادات وسياسة الإنفاق متكاملتان وينبغى تقييمهما كحزمة واحدة لتحقيق أهداف المالية العامة والأهداف الاقتصادية والاجتماعية.

ورغم ما سبق فان التقرير يعد وبحق إضافة كبيرة للمكتبة العربية ووثيقة مهمة لصانعى القرار فى البلدان العربية، حيث يضع خريطة الطريق للتعامل مع هذه المشكلة التى تعد من اهم قضايا تمويل التنمية فى الدول العربية.


لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالى

رابط دائم: