كثيرون يكتبون منذ سنوات عن غروب شمس الإمبراطورية الأمريكية من قبيل التوقع أو الخوف أو التمنى. تراجع نفوذ أمريكا فى العالم، وانقساماتها الداخلية الحادة، وصعود قوى عالمية مناوئة أهمها الصين عوامل تغذى الانطباع بأن عصر الهيمنة الأمريكى قد انتهى. غير أن مجلة ايكونوميست البريطانية الرصينة، التى لم تنكر أهمية هذه العوامل كأسباب ومظاهر لتراجع القوة الأمريكية، اعتبرت أن الانسحاب المهين والفوضوى من أفغانستان هو التطور الأهم، وربما يكون الخطوة قبل الأخيرة فى رحلة السقوط.
الانسحاب كما يراه كثيرون بداية لعصر أفول القوة العظمى الوحيدة. تماما كما كانت هزيمة بريطانيا فى حرب السويس 1956 ثم انسحابها، هى التاريخ الرسمى لوفاة الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس.
فى التجربتين البريطانية والأمريكية توجد أسباب داخلية وخارجية سبقت التراجع وقادت إليه. وفى الحالتين تم الانسحاب دون تحقيق الهدف من الغزو ولهذا يعتبرونه هزيمة. عوامل التشابه بين التجربتين كثيرة وتتجاوز الانسحاب المخزى. لذلك لم يجد المؤرخ الأمريكى الاسكتلندى الأصل نيل فيرجسون مدخلا لاستقراء مستقبل القوة الأمريكية أفضل من العودة إلى الماضى البريطانى. يتفق فيرجسون مع القائلين بأن عصر الهيمنة الأمريكية فى طريقه للأفول. لكنه يتوقع الأسوأ وهو أن تكون النهاية صاخبة وليست تدريجية وسلسة كما كانت النهاية البريطانية.
الاقتصاد هو مدخله المفضل للمقارنة بين التجربتين. ويرى أن أنماط زيادة الديون العامة البريطانية فى بداية القرن العشرين مشابهة لمعدلات زيادة الدين الفيدرالى الأمريكى حاليا. بعد الحرب العالمية الأولى قفز الدين البريطانى من 109% من الناتج المحلى إلى عتبة 200% عام 1934. فى الحالة الأمريكية ورغم الاختلافات تظل المقارنة ممكنة لاسيما فيما يتعلق بالمخاطر. وعموما سيصل الدين الأمريكى إلى نحو 110% من الناتج المحلى خلال العام الحالى. بينما يتوقع مكتب الميزانية التابع للكونجرس أن يتجاوز 200% بحلول 2051.
قد لا يكون فيرجسون واضحا بما يكفى فى شرحه لمخاطر الدين وتأثيره على مستقبل القوة الأمريكية، ربما اعتقادا منه أن هذا الربط بديهى ومفهوم، لذلك سيكون من المناسب اللجوء إلى خبير آخر هو بول كينيدى وهو أيضا مؤرخ من أصل بريطانى ومؤلف الكتاب الشهير «صعود وسقوط القوى العظمى». يوضح كينيدى أن استمرار الإنفاق بالاستدانة خاصة على تعزيز القوة العسكرية هو السبب الأكثر أهمية لانحدار أى قوة عظمى. ويشير فى هذا الخصوص إلى تكاليف حربى العراق وأفغانستان التى قدرتها دراسة حديثة لجامعة براون الأمريكية بنحو 8 تريليونات دولار خلال 20 عاما من الحرب على الإرهاب. يقول كينيدى إن تلك التكاليف الباهظة تمثل انتصارا لأسامة بن لادن الذى كان هدفه المعلن إفلاس أمريكا.
بالعودة لأسباب التراجع الأخرى كما يرصدها فيرجسون نجد أنه لم يتوقف فقط عند أزمة الديون كسبب محتم وليس محتمل للانهيار، فهناك جوانب اقتصادية أخرى منها تراجع الناتج الاقتصادى. ووفقا لقاعدة تكافؤ القوة الشرائية فى السوق المحلية فإن الناتج الإجمالى للصين يتجاوز مثيله الأمريكى منذ 2014 لكن بحساب الناتج وفقا لسعر صرف العملة (الدولار مقابل اليوان) سيظل الاقتصاد الأمريكى هو الأكبر، غير أن الفجوة آخذة فى الانكماش. وخلال العام الحالى سيكون الناتج المحلى للصين بالدولار يعادل 75% من مثيله الأمريكى وسيصل إلى 89% بحلول 2026.
لم تعرف أمريكا منافسة بهذه الضراوة من قبل. حتى الاتحاد السوفيتى لم يتجاوز حجم اقتصاده فى أى وقت 44% من الاقتصاد الأمريكى. هنا أيضا نكون فى حاجة إلى توضيحات كينيدى الذى تستوقفه قوة المنافسة غير المسبوقة من جانب الصين. ويشير إلى أن أمريكا لم تواجه منافسا بهذه الشراسة منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر عندما كان اقتصادها يتفوق على نظيره البريطانى. وطوال القرن العشرين كان يفوق بمعدل مرتين إلى أربع مرات اقتصاد أى من القوى الكبرى الأخرى. وكان يفوق بعشر مرات اقتصاد اليابان عندما هاجمت الأسطول الأمريكى فى بيرل هاربر 1941. وعندما أعلن هتلر الحرب كان الاقتصاد الأمريكى أكبر ثلاث مرات من مثيله الألمانى.
الاقتصاد ليس وحده ما ينذر بغروب شمس الإمبراطورية المثقلة بالأعباء، هناك أمراض سياسية شائعة أصابت بريطانيا وتعانى منها أمريكا حاليا وقد شخصها تشرشل بنظره الثاقب: «انتشار الشعبوية، تجاهل القضايا المهمة، إعطاء الأولية للمصالح الانتخابية على حساب مصلحة الدولة، تشتيت اهتمام الجماهير بعيدا عن التحديات القومية وعدم مصارحتها بالحقائق غير السعيدة»
يضيف فيرجسون أن النخبة السياسية الأمريكية تقترف نفس الآثام التى ارتكبتها النخبة البريطانية بتجاهل تطورات وتحولات النظام العالمى والتهرب من مواجهة السلوك العدوانى الخارجى برفض المزيد من الحروب. وهو يعتبر أن الانسحاب من أفغانستان كان الصدمة التى نبهت الأمريكيين إلى هذه العلل. وان انتهاء الحرب دون تحقيق أى مكسب هو اعتراف بالهزيمة أمام طالبان على مرأى ومسمع من العالم.
أمريكا تحتاج لمن يوقظها لينقذها. تنتظر من يبلغها بحكمة تشرشل الخالدة، «الحقائق أفضل من الأحلام». لكن المشكلة أن قادتها غارقون فى أحلامهم بل يصرون على تسويقها للشعب. يطرح المؤرخان سيناريوهين أحلاهما مر بالنسبة لمستقبل الزعامة الأمريكية. الأول كتبه فيرجيسون وهو أن تستيقظ أمريكا بعد فوات الأوان، ستكون شمس إمبراطوريتها قد غربت، وسيكون السقوط عنيفا، فكما اخبرنا تشرشل «نادرا ما كان سقوط الإمبراطوريات بلا ألم». السيناريو الأخر أقل رعبا ورسمه كينيدى وهو أن تستيقظ على واقع جديد لا تصبح فيه القوة العظمى الوحيدة المهيمنة. سيكون هناك عالم آخر متعدد الأقطاب. وبتعبير كينيدى المغرم بالطبيعة والحياة البرية ستبقى أمريكا أكبر غوريلا فى الغابة لكنها ليست الوحيدة. ستزاحمها غوريلات أخرى حتى لو كانت أقل حجما وتوحشا.
هل تستحق أمريكا هذا المصير؟ أدعوا لها أو أدعوا عليها.
لمزيد من مقالات عاصم عبد الخالق رابط دائم: