يتواصل القصف بالتهديدات بين روسيا والولايات المتحدة، ويواكبه حشد الجيش الأوكرانى لنصف قواته قرب إقليم دونباس المتمرد على الحكومة الأوكرانية، ومن خلفه تنتشر قوات لحلف الناتو فى بولندا ورومانيا ولاتفيا، وتجوب القطع البحرية الأمريكية والبريطانية مياه البحر الأسود، وفوقها تحوم الطائرات بكل أنواعها، بينما نشرت روسيا نحو 125 ألف مقاتل مدججين بأحدث الأسلحة، ولوحت روسيا بنشر الصواريخ الفرط صوتية، التى لا يملك حلف الناتو مثيلا لها، ولا يمكن إسقاطها لسرعتها الرهيبة، ورغم ذلك فالحرب بين الجانبين مستبعدة، لأنها ستلحق دمارا واسعا يتخطى أوروبا، لكن من غير المستبعد أن تنشب معارك بين الحكومة الأوكرانية وشرق أوكرانيا المتمرد، ومعظم سكانه من أصول روسية أو من المتحدثين بها، والذين رفعوا راية التمرد، وأعلنوا الحكم الذاتى، ولوحوا بالانفصال والانضمام إلى روسيا أسوة بشبه جزيرة القرم، وهذا السيناريو تخشاه الولايات المتحدة وحلف الناتو، وتأزم الوضع عندما جرت مناورات للحلف فى البحر الأسود، مع تزويد أوكرانيا بالأسلحة، والسعى إلى انضمامها لحلف الناتو، لتتمتع بحصانة عسكرية، وتوعدت روسيا بأنها لا يمكنها الصمت على ضم حلف الناتو لأوكرانيا، وتصويبها للصواريخ نحو موسكو، وقالت إنه خط أحمر لا يمكن تجاوزه وزاد من شكوك روسيا إعلان وزير الخارجية الأمريكى أن أوكرانيا دولة مستقلة ذات سيادة، ومن حقها الانضمام إلى الحلف، ونشر قواعد عسكرية على أراضيها، لكن موسكو تذكره بأزمة الصواريخ الكوبية، عندما حاولت مجموعة موالية للولايات المتحدة غزو كوبا، وخاضت معركة «خليج الخنازير»، وعندئذ قرر الاتحاد السوفيتى نشر صواريخ لحماية كوبا من الغزو، ونشبت أزمة خطيرة، وحاصرت البحرية الأمريكية كوبا، وبلغت الأزمة حد إعلان التأهب النووى، حتى توصل الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة إلى حل يقضى بسحب الصواريخ السوفيتية من كوبا مقابل تعهد واشنطن بعدم غزو كوبا، وها هو التاريخ يعيد نفسه، فالولايات المتحدة تسعى لنشر الصواريخ حول روسيا، وتلوح روسيا بدعم الانفصاليين عن أوكرانيا ونشرت قواتها حول أوكرانيا، ووضعت خطوطا حمراء أمام تقدم حلف الناتو، وإن كان المرجح أن يتم التوصل إلى اتفاق ينص على الالتزام باتفاقية مينسك الموقعة فى 5 سبتمبر 2014، التى تعيد الوئام إلى أوكرانيا، مع منح السكان المنحدرين من أصول روسية والمتحدثين بلغتها حقوقهم فى إطار حكم لا مركزيا، وألا تنضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، مع تعهد روسى بعدم الإقدام على غزوها، أو المساعدة فى انفصال شرق أوكرانيا، وبدون اتفاق كهذا، يكمل اتفاقية مينسك، فإن التوتر سيظل يخيم على أوكرانيا وشرق أوروبا، ولا يمكن استبعاد نشوب معارك، وتتخوف أوروبا من سيناريو اتساع الأزمة، لأن أراضيها ستكون ساحة لتصفية الحسابات بين موسكو وواشنطن، وإذا كانت أوروبا متحالفة مع الولايات المتحدة، إلا أنها غير متحمسة للدخول فى مغامرات من هذا النوع، وتسعى إلى التهدئة وتنفيذ اتفاقية مينسك، لكن الولايات المتحدة لا ترغب فى تحسن العلاقة بين أوروبا وروسيا، بل تأمل فى توسيع الهوة، ولهذا كان اعتراضها على تمديد خط غاز السيل الشمالى 2 من روسيا إلى ألمانيا، وترى أنه يكرس النفوذ الروسى بأوروبا، كما تعتبره ضربة قوية لأوكرانيا التى كان يمر بها خط الغاز الرئيسى إلى أوروبا، وتحصل على عائد من الغاز مقابل مروره عبر أراضيها، لكن روسيا نوعت خطوط الغاز عبر تركيا وألمانيا، لتهميش الخط الأوكرانى، وفى المقابل تسعى روسيا لتفجير الخلاف بين الولايات المتحدة وأوروبا، وإظهار واشنطن بالسعى إلى توسيع التوتر عبر السعى لضم أوكرانيا وجورجيا إلى حلف الناتو، وتوريط أوروبا فى نزاع مع روسيا، فى وقت لا يمكن فيه لأوروبا الاستغناء عن الغاز الروسى، ولا تحمل مواجهة عسكرية ستكون أوروبا ساحتها ووقودها. إن الصراع بين روسيا والولايات المتحدة فى أوكرنيا أحد حلقات الانتقال من عصر القطب الواحد إلى عصر التعددية القطبية، فالأزمة الأوكرنية ستتجدد فى تايوان مع الصين، لأن الولايات المتحدة تضع كلا من روسيا والصين على رأس قائمة خصومها، وكل من روسيا والصين تعتبران الولايات المتحدة مصدر التوتر الدولى، وأنها تصر على استمرار الهيمنة على العالم بدعوى نشر القيم الأمريكية والديمقراطية وحماية الأقليات وحقوق الإنسان، وترى أن هذه الادعاءات مجرد ذرائع لتبرير فرض هيمنتها عن طريق العقوبات الاقتصادية والقوة الإعلامية والسياسية، حتى تستعيد قوتها الاقتصادية والعسكرية المتراجعة.
لمزيد من مقالات مصطفى السعيد رابط دائم: