رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

حكاية الأهرام.. هى بحق حكاية مصر مع حرية الكلمة!

اسمحوا لى يا من تقرأون الأهرام كل طلعة شمس.. من يوم أن خرج إلى الدنيا قبل 146 عاما ـ اللهم لا حسد ـ وحتى يومنا هذا.. يطل علينا مع قهوة الصباح.. كما كان يفعل جدى ومن بعده أبى رحمهما الله فى الزمن الجميل أو الذى كان جميلا كما نصفه نحن الآن. اسمحوا لى أن أحدثكم اليوم.. والحديث كله عن حكاية الأهرام فى بلاط صاحبة الجلالة وكيف كانت بحق حكاية ورواية.. بدايتها حكاية مصر مع حرية الكلمة.. كما قالها لى يوما الصحفى كبير القلب حقا العظيم الدكتور يوسف ادريس ونحن نتسامر معا فى مبنى الأهرام.. فى الدور الثالث فى انتظار نزول الطبعة الأولى من الأهرام.. ومعنا العزيز الغالى الدكتور مصطفى محمود الذى كان يراجع مقاله الاسبوعى عن الحياة وكيف خلق الله الأرض والكون والبشر قبل الزمان بزمان.. ولماذا فضل الله الإنسان وأجلسه على كرسى سيد الكون فى الأرض. لكى يصلحها ويرفع قامة الإنسان إلى عنان السماء. لا أن يفسد فيها ويسفك الدماء كما فعل.. وكما جرى.. وكما كان..

 


آه.. لقد نسيت شريكنا الثالث فى السهرة الاسبوعية وأعنى به العزيز الغالى أحمد بهجت رفيق الدرب والطريق صاحب كتاب: أنبياء الله وهو من نوع الكتب التى لا تتكرر فى حياتنا والذى يحكى فيه قصة الخلق ونزول أنبياء الله ورسله إلى الأرض.. ونزول الإنسان الذى اختاره الله ليكون خليفة له فى الأرض ليصلح فيها فبغى وتكبرَّ وتجبرَّ وملأ الأرض فسوقا وذنوبا وشرورا..

ولعل السؤال الذى كان يشغل بالى ليلتها وبال رفاقى فى الهم والقلم الاعزاء: أحمد بهجت ومصطفى محمود ـ ويوسف ادريس.. ومعهم كاتب هذه السطور: كيف كانت حكاية الأهرام.. هى حقا وصدقا ويقينا حكاية مصر مع حرية الكلمة؟

وربما كانت لوطننا مصر صورة أكثر تنويرا.. مادام الأهرام وكتابه ومحققوه ظلوا كما يعرفهم ويريدهم أهل مصر..بمثابة مصابيح العربة فى طريق حالك الظلام..

***

بداية نقول هنا أن مصابيح العربة الأهرامية هى تعليمات ووصايا الأستاذ لنا ـ والأستاذ هنا كما تعرفون هو محمد حسنين هيكل رئيس التحرير الذى تقول لنا صراحة أقصد التعليمات: اكتبوا بحرية ودون خوف.. فمن خلف ظهركم تاريخ الأهرام الطويل والعريق فى العمل الصحفى الجاد والذى يمتد إلى أكثر من 146 عاما اللهم لا حسد..

اكتبوا بحرية وبلا خوف.. ولكن بلا تجريح لأحد.. وبلا بذاءات أو خصومات شخصية كانت أو مهنية..

فالأهرام يا رفاقى هو محراب الصحافة الحرة المستقلة..

أنشروا الوقائع كما هى.. وكما رأيتموها وكما رآها معكم أهل مصر.

إن أجمل عبارة فى حياة الصحفى هي: أكتب بحرية وبالحقائق والأرقام.. لا بالخيالات والأوهام.. وتذكروا دائما وأنتم تكتبون أنكم تكتبون على صفحات الأهرام أعرق الصحف وأقدمها.. وأن قراءكم لا ينتظرون منكم إلا الحقيقة والحقيقة وحدها.. وكما قال المفكرون العظام قبل الزمان بزمان: الحق أحق أن يتبع ـ بتشديد التاء ـ وتذكروا دائما أنكم فى أعرق صحيفة عرفتها مصر اسمها: «الأهرام».. وأن التاريخ يترقب خطاكم..

***

ولكن بداية نريد أن نعرف كيف دخلت أنت الأهرام يا فتى الفتيان .. أسمعكم تسألون؟

الحق أقوله لكم.. فقد دخلت الأهرام فى يونيو من عام 1959 وهو نفس تاريخ تخرجى فى جامعة القاهرة فى كلية الآداب قسم صحافة.. بترشيح من الدكتور خليل صابات عندما فاجأنى عم بشير ساعى القسم.. ذلك الرجل الطيب الذى يحمل أوراق وتعليمات الدكتور عبد اللطيف حمزة رئيس القسم والدكتور خليل صابات أستاذ الترجمة والصديق المقرب ـ بتشديد الراء من الأستاذ هيكل.. بقوله لى وأنا أصعد درجات سلم كلية الآداب فى صباح يوم مشرق بسام: حضرتك والأستاذة جيهان رشتى زميلتك.. بكرة الصبح تروحوا جريدة الأهرام فى باب اللوق الساعة عشرة صباحا وتقابلوا الأستاذ هيكل.. هو مستنيكم هناك!

قلنا جيهان وأنا فى صوت واحد: هنقابل الأستاذ هيكل حتة واحدة!

***

فى الصباح وفى تمام التاسعة صباحا.. كنا أنا وجيهان نصعد درجات السلم الرخامى بمقر جريدة الأهرام زمان فى باب اللوق فى آخر شارع شريف.. وقلنا جيهان وأنا ـ للموظف الجالس أمام الساعة الكبيرة الدوارة فى المدخل والتى يسجلون فيها اسم الموظف أو المحرر ساعة وصوله بالضبط: احنا طلبة فى قسم الصحافة فى كلية الآداب جامعة القاهرة.. والأستاذ هيكل طلبنا..

يقاطعنا موظف الساعة: آه التعليمات قدامى بتقول انكم تنزلوا المطبعة الأول.

سألنا: فين؟

أشار بإصبعه اشارة تقول: تحت!

سألنا: تحت فين؟

قال: فى البدروم!

ونزلنا درجات السلم إلى المطبعة لتقابلنا ماكينات جمع الحروف الضخمة والأحبار ورائحة ألواح الزنك وعرق العمال فى أول يوم لنا فى الأهرام!

ولكن الأخت جيهان رفضت أن تبقى تحت الأرض مع روائح الطباعة من أحبار وحروف من الرصاص المصهور وقالت لي: لا.. أنا ماشية يا عم عزت.. خليك أنت!

وقبل أن نصعد السلالم إلى عالم الأحياء والضجيج ودوشة السيارات وزعيق المارة والباعة الجائلين فى باب اللوق.. قالت لى: صحافة إيه يا عم عزت؟.. تعالى نشتغل معيدين أنا وأنت فى الجامعة.. أحسن.. .. فنحن الاثنان الأوائل على الدفعة!

ولكنى أجبتها على ما أذكر يومها: أنا أتخلقت لقيت نفسى هنا.. وهافضل هنا إلى يوم القيامة؟

تركتنى لقدرى الذى أردته والذى كتبه الله لى أن أصبح صحفيا مرموقا

صعدت هى السلم.. وذهبت إلى الجامعة.. لتصبح فيما بعد أول عميدة لكلية الآداب قسم صحافة!

وكان هذا هو الفصل الأول فى حكايتى مع الأهرام..

لنبدأ بعدها.. حكاية الأهرام مع حرية الكلمة التى عاصرت فصولها يوما بيوم.. وساعة بساعة.. ومازلت أعيشها حتى كتابة هذه السطور..

***

كان أول عهدى بالأهرام.. عندما كنت أحضر اجتماع مجلس التحرير فى المبنى القديم فى آخر شارع شريف باشا فى باب اللوق المجاور لمبنى البنك الأهلى.. بعد أن وافق الأستاذ.. والأستاذ هنا هو الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل الذى أراد لنا أن نحضر اجتماع الصباح لمجلس التحرير لكى نتعلم ولا نتكلم.. يعنى بصفة مراقب.

ولكننى كسرت القاعدة فى أول يوم حضرت فيه اجتماع مجلس تحرير أقدم صحيفة مصرية على الاطلاق اسمها الأهرام.. مازالت تصدر كل يوم وينادى عليها باعة الصحف على مدى 146 عاما.. اللهم لا حسد ـ اسمها الأهرام ..عندما رفعت يدى وأنا أجلس مع زملائى من طلبة وطالبات قسم الصحافة فى الجامعة على أحد الكراسى المرصوصة وظهرها للحائط من حول مائدة مجلس التحرير التى تضم خيرة وخلاصة صحفيى وكُتاب مصر كلها.. فقد كان غير مسموح لنا بالجلوس مع الكبار على مائدة مجلس التحرير الموقر.. وطلبت من الأستاذ هيكل يومها أن يأذن لى بالكلام..

لم يتكلم.. فقط أشار بإيماءة من رأسه علامة الموافقة..

قلت يا ريت يا ريس نعمل تحقيقا صحفيا مع الذين ينزلون القاهرة ويشوفوا مصر لأول مرة فى حياتهم!

سألني: مين دول يا عم عزت؟

قلت: فى باب الحديد يا افندم.. ألاف يركبون القطار ويحضرون إلى مصر أم الدنيا لكى يزوروا أولياء الله .. مقام الحسين ويتبركوا بمقام السيدة زينب.. ويشتروا حلاوة المولد.. وكثيرون منهم ربما جاءوا إلى القاهرة لأول مرة فى حياتهم!

يقاطعنى الأستاذ بقوله: هؤلاء الذين جاءوا إلى القاهرة لأول مرة فى حياتهم.. تحقيق جديد.. وأنا موافق.. انزل أنت يا عزت وخد معاك الأخ محمد يوسف كبير المصورين عشان أنا عاوز صور كويسة معبرة للذين يدخلون القاهرة لأول مرة.. أنا موافق.. ادخل جوة الناس وأسألهم واعرف منهم هما جايين مصر ليه؟ عاوزين ايه؟ ناقصهم ايه؟

ويا ممدوح ـ يقصد الأستاذ ممدوح طه رئيس قسم الأخبار وأحسن رئيس قسم أخبار عرفه الأهرام أيامها ـ شوف محمد يوسف كبير المصورين ينزل مع عزت محطة باب الحديد ويعملوا تحقيق مصور مع زوار القاهرة لأول مرة يقولوا رأيهم بصراحة

ثم نظر إليَّ الأستاذ نظرة من يرانى لأول مرة وقال: أنا عاوز التحقيق ده بصوره يكون على مكتبى.. قبل الساعة خمسة النهاردة!

انتفضت أنا من مكانى كفأر مذعور وقلت له: حاضر يا ريس!

***

لم أنس وأنا أنزل سلالم الأهرام فى مبناه العتيق فى باب اللوق.. بصحبة عم المصورين الصحفيين كلهم الذى اسمه محمد يوسف لأول مرة أن أقول له: شرف كبير لى أن أنزل مع حضرتك عشان تصور لى تحقيق صحفي!

رد بأدب وتواضع جم: الكبير يا عزيزى بعمله موش بإسمه؟

سألنى هو: حتروح فين يا عم عزت؟

قلت له: حنروح محطة مصر ونقف بره المحطة.. ونستنى أفواج المسافرين اللى وصلوا وهما شايلين «عزالهم وهمومهم وحالهم ومحتالهم» حضرتك تصورهم دون أن يشعروا وأنا حتكلم معاهم.. وخصوصا اللى بيشوفوا مصر لأول مرة!

نحن الآن فى محطة مصر.. هيصة وزمبليطة وصراخ أطفال.. وصراخ أمهات: تعالى يا ولد أمسك فى أيدى لحسن تتوه منى فى الزحام، وانتى يا مقصوفة الرقبة خليكى ماسكة فى أيدى لحسن تتوهى منى ما نعرفش نجيبك تانى!

أفواج من البشر.. وأفواج من كل لون وجنس وفصيلة.. كأننا فى يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.. يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه.. يوم أنتم تعرفونه جيدا.. اسمه يوم الحشر!

***

عمنا محمد يوسف ينادى بأعلى صوته: والنبى تعالى نشوف عمنا الشيخ ده عاوز ايه؟

ترك عمنا الشيخ عمنا محمد يوسف واتجه إليَّ وقال: والنبى يا بنى أنا حكايتى حكاية ورواية.. تعالى نقعد على كرسى من اللى مرصوصين على الرصيف ده.. باين عليك طيب وابن أصول ومتنور وهتساعدنى فى بلوتى السودة؟

> ملحوظة: كلمة «بلوى» كلمة عامية ترادف كلمة «مصيبة» فى قاموس عمنا سيبويه.

أقول لنفسى دون صوت: طيب نشوف الأول هذه البلوى التى لم تكن لا على البال ولا على الخاطر!

***

جلسنا على كرسى خشبى من كراسى المحطة.. هو يتكلم وأنا أسمع وأكتب.. أنا وعمنا الشيخ العجوز.

وماذا فعل به الزمان؟

ماذا فعل هو مع زمان تنكر له فيه أولاده؟

وكما قال لى وكما حكى: أنه لملم حاله ومحتاله وقال: حقى برقبتى.. أنا حاروح بلاد الله خلق الله.. وليفعل الله ما يريد!

قلت له: وحتروح بعيد ليه.. أنت تنزل فى لوكاندة من لوكاندات سيدنا الحسين.. فى الشارع المطل على مقام سيدنا الحسين.. وأنا معاك أوصلك لحد هناك بنفسى!

.. وقد كان.

ولكن الذى جرى والذى كان.. كان هو العجب العجاب!

ومازلنا مع حكاية الأهرام .. التى هى بحق حكاية مصر مع حرية الكلمة!

Email:[email protected]
لمزيد من مقالات عزت السعدنى

رابط دائم: