رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

‎مائة عام ثقافة «7»

عرفنا أن مصر كانت من الدول الأولى التى أتيح لها أن تشاهد عرضا من عروض هذا الفن الجديد الذى لم يتح له أن يظهر إلا فى العصور الحديثة وهو فن السينما.

الفرنسيون لم يسبقونا إلا بأقل من عام، إذ شاهدوا أول عرض فى باريس، وهو أول عرض فى العالم، فى شهر ديسمبر من عام 1895، ونحن شاهدنا العرض الأول فى شهر نوفمبر من العام التالي.

غير أن هذا العام الذى يفصل بين العرضين يختصر عدة قرون، لأن الفرنسيين شاهدوا ما اكتشفوه وما صنعوه بأيديهم، أما نحن فلم نكن فى هذا الوقت إلا متفرجين. وهذا هو الدرس الأول الذى تعلمناه من السينما. أن الذى يفصل بيننا وبين الأوروبيين لا يحسب بالزمن فحسب، وإنما يحسب بما كان لديهم وما كان لدينا فى الوقت الذى سبقونا فيه.

كانت لديهم الحرية التى جاهدوا فى سبيلها حتى نعموا بها وخرجوا من سجون العصور الوسطى وأيامها السوداء. وكان لديهم العقل الذى اكتشفوا به ما اكتشفوا من حقائق وقوانين سيطروا بها على الطبيعة واستخرجوا كنوزها الدفينة ووصلوا إلى ما وصلوا إليه من تقدم ورقى ورفاهية، وهو ما يجب أن نحققه لأنفسنا وإلا فسنظل فى هذه العصور الحديثة مجرد متفرجين. ونحن نرى أن المصريين استفادوا من هذا الدرس. فالسينما المصرية لم تكن إلا صورة من صور النهضة الشاملة التى عرفتها مصر فى القرنين الماضيين وثمرة من ثمراتها. لأن السينما علم قبل كل شيء أو علوم اجتمعت فى فن واحد. تصوير، وتسجيل، وتأليف، وتمثيل، وإخراج، وخامات، وأجهزة، وآلات وقف عبدالرحمن الجبرتى أمامها فى نهاية القرن الثامن عشر مبهوتا حين دعاه علماء الحملة الفرنسية لمشاهدة ما كانوا يقومون به فى البيت الذى صفوا فيه كتبهم «وبنوا فيه تنانير ـ أفرانا ـ مهندسة وآلات تقاطير عجيبة الوضع، وآلات تصاعيد الأرواح وتقاطير المياه وخلاصات المفردات وأملاح الأرمدة المستخرجة من الأعشاب والنباتات». هذه العلوم وغيرها مما وصل إليه الأوروبيون فى العصور الحديثة كان علينا أن نمتلكها لننهض كما نهضوا ونتمكن من مواجهتهم ومواجهة القوى والنظم التى فرضت علينا تخلفها، وهذا ما اجتهدنا فى تحقيقه حتى استطعنا أن نكون فى السينما منتجين لا مجرد متفرجين. وفى هذا الطريق الذى قطعناه من بدايات القرن التاسع عشر إلى عشرينيات القرن العشرين واجهنا تحديات كثيرة وخضنا معارك عنيفة كان لابد أن نخوضها مع الجهل والخرافة والطغيان.

> > >

السينما علم، معناها أن السينما عقل. وإذن فالسينما حرية. وإذن فهى فى نظر الذين أعلنوا الحرب على العقل والحرية حرام! هؤلاء يعتقدون أن التمثيل نوع من التصوير والتشخيص فحكمه حكم الرسم أو النحت الذى حرمه الإسلام، لأن التماثيل كانت أصناما تعبد فى الجاهلية. وعلى أساس هذه الفتوى حرم الاشتغال بالتمثيل فى البلاد التى كانت خاضعة للعثمانيين ومنها مصر التى كانت تتمتع باستقلال داخلى أتاح لها أن تتصل بالأوروبيين وتنقل من علومهم وتقتبس من فنونهم ونظمهم التى أصبحت ملكا للبشرية كلها، وفى هذه النهضة بنى الخديو إسماعيل مسرح الأزبكية ودار الأوبرا وانفتح الطريق أمام المسرحيين السوريين واللبنانيين الأوائل، ليقدموا فى مصر أعمالهم التى شجعت المصريين على أن يخوضوا التجربة التى لم تكن مجرد فن وإنما كانت ميدانا جديدا للحرية اكتشف فيه الرجال والنساء مواهبهم وفضائلهم، وتخلصوا مما ورثوه من كذب وخوف ونفاق، وأصبحوا مستعدين لاستقبال هذا الفن الجديد، فن السينما الذى رفع رايته عاليا وسار بها فى المدن والقرى يصور الواقع، ويمتحن الفعل، ويميز بين الحق والباطل، ويكشف عما يختفى فى الصدور. فالسينما، كما قلت فى السطور السابقة ـ صورة من صور النهضة وثمرة من ثمراتها، وهى أيضا سلاح من أسلحة النهضة، ورسول من رسلها، تدين بوجودها للنهضة، وتحمل رايتها، وتبلغ رسالتها. وإذا كان فقهاء السلطان العثمانى قد حرموا التمثيل لأنه نوع من التصوير الذى حرمه الإسلام فقد رد الإمام محمد عبده على هذه الفتوى الرجعية بفتواه الشهيرة التى بين فيها أن التصوير حرام إذا كانت الصورة أو التمثال صنما يعبد من دون الله، فإذا كانت وسيلة من وسائل المعرفة أو كانت تعبيرا عن فكرة أو عاطفة فالإسلام لا يحرمها. ومن المؤكد أن دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة والتسليم بحقها فى العلم والعمل فتحت الطريق أمام اشتغال المرأة بالتمثيل المسرحى والسينمائى الذى أثبتت فيه جدارتها وقدمت أعمالا رائعة اغتنت بها النهضة من جهة، وتحررت بها المرأة من جهة أخرى.

> > >

غير أن الفتوى العثمانية التى اضطرت لأن تتوارى وتتراجع فى المراحل التى ازدهرت فيها ثقافة النهضة وخاصة فى عشرينينات القرن الماضى كانت تنتهز الفرص السانحة لتصحو من نومها وتقطع على المصريين طريقهم كما حدث فى الأيام التى تمكن فيها الرجعيون من تسويق خرافاتهم وأصبح فيها اعتزال العمل فى السينما والمسرح تجارة رابحة ترسم لها الخطط فى الداخل والخارج، وترصد الميزانيات، لأن المسرح المصرى والسينما المصرية كانا كما قلنا رسولين من رسل النهضة المصرية حملا مبادئها وشعاراتها إلى كل بيت من بيوت المنطقة، وصورا هذه المبادئ وجسداها فى أفلام ومسرحيات أزالت الغشاوة، وخاطبت القلوب والعقول، وفتحت الطريق أمام الرجال والنساء ليروا أنفسهم فى مراياها، ويعرفوا أن العقل حق، وأن الحرية حق، وأن الجمال حق، وأن الحب حق، فما الذى تستطيع قوى الظلام أن تفعله فى مواجهة هذا الخطر؟ لم يكن أمامها إلا أن تنتظر حتى وقعت هزيمة يونيو فوجدتها فرصة سانحة توقظ فيها الفتوى العثمانية التى كانت وجها من وجوه ردة شاملة أعادتنا إلى ما كنا عليه قبل النهضة.

وفى الأسبوع المقبل نواصل هذا الحديث


لمزيد من مقالات أحمد عبدالمعطى حجازى

رابط دائم: