الخميس الماضي، فقدت مصر والأمة العربية والإنسانية المفكر الفيلسوف العلامة الدكتور حسن حنفى «1935 – 2021»، وبرحيله انطفأ سراج منير من سُرُج العقلانية والوعى والتقدم. تمثل سيرته الحافلة وكتاباته القيمة الغزيرة تيارا إصلاحيا تنويريا متفردا بحد ذاته, يجمع بين الدين والعلم، التراث والتجديد، ثقافة الأنا وثقافة الآخر، يستند إلى ضمير حى وقلم صادق ورؤية تاريخية ثاقبة؛ لإعادة الحياة إلى الجسد العربى المنهك, كى يتحرر وينهض ويتقدم.
منذ أعد رسالته للدكتوراة فى الفلسفة بجامعة السوربون، حول ظاهريات التأويل، فى ستينيات القرن الماضي، دشن حسن حنفى مشروعا فكريا، يعمل على الانتقال بحركة الفكر من الخطاب الأخلاقى الوعظى إلى الخطاب العلمى التحليلي, مؤمنا بأن كبوتنا الحضارية لا تعدو أن تكون مرحلة صعبة لكنها طبيعية؛ ولا تقف عائقا أمام إمكانية استئناف النهوض. وعلى خلاف كثير من الحداثيين العرب، اعتبر حنفى أن تجاهل التراث أمر غير ممكن؛ داعيا إلى نقده وإعادة تأويله بما يناسب العصر ومتغيراته لمصلحة الغالبية من الجماهير، وفق منهجية متميزة فى التعامل مع متطلبات الواقع المعيش، جامعا بين طعام الجسد وطعام الروح؛ مشددا على دور العلماء الأفذاذ فى إنجاز الإفاقة والخروج من العتمة؛ فالعلم هو الدولة، والدولة صرح يشيده العلماء.على مدى سنوات أنجز المفكر والفينومينولوجى والهيرمنيوطيقى الأبرز رؤية متفردة لإعادة بناء التراث الإسلامي؛ دون خصام مع الفكر الإنساني، عبر سلسلة مؤلفات: «من العقيدة إلى الثورة»، و«من النقل إلى الإبداع»، و«من النص إلى الواقع»، و«من النقل إلى العقل»، و«مقدمة فى علم الاستغراب» و«التفسير الموضوعى للقرآن الكريم»، و«هموم الفكر والوطن»، و(وجوه التسلط وآفاق الحرية»، و«الدين والثقافة والسياسة فى الثقافة المصرية» وغيرها, بأمل بناء ما سماه تيار اليسار الإسلامى, حاملا همّ تحرير شعوب الأمة، وإنشاء جيل من الرواد، يشق طريقه بين السلفيين والعلمانيين، القدماء والمحدثين، التقليديين والتجديديين، طريقا ثالثا يتجاوز السلفيين والعلمانيين، بعدما وصل الاستقطاب بين الطرفين لدرجة العداوة والعدوان, وسقطت البلاد العربية فى أسر الاستبداد فى الداخل، والعدوان من الخارج والتبعية الغربية، حيث الاحتلال مازال جاثما بطريقة أو بأخرى, وكلما تخطو مجتمعاتنا العربية خطوة للأمام تخطو اثنتين للخلف.رصد حنفى وضعَ العالَم العربي، فى العَقد الأول من القرن الحالي، مع اشتداد الأزمات وتراكم الإهانات واستعلاء قُوى الهيمنة، لاسيما أمريكا، وأدواتها كالعولمة وآليات السوق وثورة الاتصالات والقوة الخشنة والناعمة، قائلا: لم يَعُد الوطن العربى قادرا على حماية سمائه والدفاع عن أرضه, تفعل فيه القُوى الأجنبية ونُظُم الحكم ما تشاء، وكأنه وطن بلا صاحب، جسم مخدَّر يفعل فيه الأجنبيُّ ما يشاء بالتقطيع والترقيع ونقل الأعضاء، بمساعدة الممرِّضين المحليين لخَلقِ جسد جديد، فاقد الهُوِية، عاجز عن الحركة. قدم حنفى نقدا بنَّاء للقضايا الشائكة، بوصفه مفكرا رشيدا يتحمَّل مسئوليته تجاه وطنه وأُمته والإنسانية, نظر إلى الغرب بندية, باتت آراؤه كالصمام الذى يمنع الهواء من الخروج من إطار سيارتك؛ اعتبر أن العوامل الخارجية وراء التخلف، رغم أهميتها، مجرد شماعة لتعليق البلايا الداخلية, إذ لا ينجح تآمر الخارج إن لم تسمح له إمكانات الداخل، العيب فينا، ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، لا تستطيع أمريكا أن تتآمر عليك؛ إن لم تكن أنت مستعدا لقبول التآمر ضد شعوبك، وحذر من الثمن الفادح لغياب الخيال السياسي. إن الدكتور حسن حنفى أحد العقول العظيمة، التى لم تستفد منها مصر والأمة العربية, كما يليق بمفكر اجتهد لبلورة مشروع نهضوي، من غير صدام بين التراث والحداثة، حتى مع اختلافنا مع بعض أطروحاته وتوجهاته، لقد أثبت هذا المصرى أن المثقف المستقل ليس عدوا أو مشروع عدو، أعطى وطنه كل شيء ولم يعطه الوطن شيئا كثيرا، بغض النظر عن جائزة هنا أو هناك، إننا أمة لا تعرف قيمة عباقرتها العظام، بل ربما تسهم بقصد أو دونه فى قتلهم أحياء، إنها تقتل بعضا من نفسها بقسوة التجاهل؛ كمن يملك جوهرة يحسبها حجرا فإذا فقدها لا يشعر بأدنى خسارة, إن عدم إدراك بعضنا القيمة التى يمثلها حسن حنفى فى زماننا هو جريمة فى حق المعرفة والعلم والرقى الإنساني, جريمة فى حق مصر نفسها، التى كان حنفى أحد أنجب أبنائها على مرّ العصور!.
[email protected]لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن رابط دائم: