لم تكن الأزمة الراهنة فى السودان مفاجئة على الإطلاق، فقد كان مقروءاً من جانب الجميع: القوى السياسية السودانية، والمجتمع الدولى ومعظم الخبراء والمراقبين، وحتى شركات الطيران التى علقت رحلاتها الجوية إلى العاصمة الخرطوم قبل ثلاثة أيام. وتبدو مقدمات هذه الأزمة قد تبلورت على ثلاث مراحل: الأولى، ترتبط بمحددات العلاقة بين الأطراف، وهى الوثيقة الدستورية التى تم التوقيع عليها فى أغسطس ٢٠١٩. والثانية، تتعلق بإدارة التفاعلات بين الأطراف السياسية نفسها بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة التى جرت فى ٢١ سبتمبر الماضى. والثالثة، تنصرف إلى أزمتى شرق السودان وتداعيات المحاولة الانقلابية الفاشلة التى جرت فى نهاية سبتمبر الفائت.
وخلال هذه المراحل الثلاث، ثمة أسباب مباشرة لارتباك المشهد السياسى السودانى على مدى عامين ونيف بعد نجاح الثورة السودانية فى إنهاء حكم عمر البشير، ويمكن تفصيلها فى التالى.
أزمة الوثيقة الدستورية
فى أعقاب انحياز القوات المسلحة السودانية للثورة السودانية وإزاحة الرئيس السابق عمر البشير عن سدة الحكم فى ١١ أبريل ٢٠١٩، تمت بلورة اتفاق سياسى مبدئى بين المجلس العسكرى برئاسة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقوى الحرية والتغيير التى تكونت من الأحزاب السودانية والنقابات المهنية التى مثلها تجمع المهنيين، وذلك فى أعقاب إزاحة البشير، حيث تم الاتفاق على تكوين مجلس سيادى مشترك يملك صلاحيات رئيس الجمهورية ويقود فترة انتقالية لمدة ثلاث سنوات يعقد بعدها انتخابات عامة، ولكن دارت معركة على من يقود هذا المجلس خلال شهرى أبريل ومايو ٢٠١٩، حيث أصر العسكريون على تولى دفة القيادة، ورفض المدنيون ذلك وأعلنوا انتهاء التفاوض بهذا الشأن يوم ١٩ مايو ٢٠١٩، واعتمدت قوى الحرية والتغيير على مخزونها الجماهيرى المساند لها، وتم اللجوء للشارع لحسم الصراع، وبالفعل تدافعت المواكب الثورية نحو مقر القيادة العامة للجيش للضغط عليه، فى اعتصام مفتوح تم فضه فى ٣ يونيو ٢٠١٩ وتسبب فى وقوع ضحايا، وحالات اغتصاب.
هذه الأزمة امتدت لعدة شهور حتى تم حسم العلاقة بين أطراف المعادلة السياسية السودانية فى إطار وثيقة دستورية تم التوقيع عليها فى أغسطس ٢٠١٩، حيث أعطت للمدنيين حق رئاسة المجلس السيادى ولكن بعد عامين من تولى المكون العسكرى هذه القيادة. ويمكن القول إن هذه الوثيقة اتسمت بالهشاشة ولم تكن محدداً حاسماً لتنظيم العلاقة بين الأطراف. وأول أسباب هذه الهشاشة أنه قد تم اختراقها متأثرة بعاملين:
أولهما، ضغوط قوى الهامش والحركات المسلحة لكى تعلو الاتفاقات السياسية معها لتحقيق السلام على الوثيقة الدستورية، حيث أسفر اتفاق جوبا للسلام الموقع فى أكتوبر ٢٠٢٠ بين الحكومة السودانية والحركات المسلحة على تجاوز فترة السنوات الثلاث للفترة الانتقالية لتمتد إلى أربع سنوات، وتم توسيع المجلس السيادى، وتشكيل مجالس جديدة كشركاء الفترة الانتقالية لتستوعب النخب السياسية من الهامش المتصالحة مع المركز. والنتيجة المباشرة لامتداد الفترة الانتقالية لمدة عام هو حدوث أزمة بشأن بند موعد تسليم رئاسة المجلس الرئاسى للمكون المدنى: هل هى نوفمبر ٢٠٢١ طبقاً للترتيب الأول أم يونيو ٢٠٢٢ بسبب تمديد الفترة الانتقالية.
ثانيهما، عدم الوفاء بمتطلبات الوثيقة، خصوصاً فيما يتعلق باستكمال هياكل الفترة الانتقالية من مجلس تشريعى ومحكمة دستورية.. إلخ، وبالتالى لم تعد الوثيقة الدستورية محدداً صلباً يتم الاحتكام إليه من الأطراف، حيث تم تبادل الاتهامات بين المكونين المدنى والعسكرى بشأن مسئولية كل طرف عن تعطيل بلورة وتدشين هياكل الفترة الانتقالية.
اختلال توازنات القوى بين أطراف المعادلة
طبقاً للقاءات التى أجريتها فى الخرطوم فى ديسمبر ٢٠٢٠ مع عدد من الفواعل السياسية السودانية، يمكن القول إن مقدمات الثورة ضد البشير فى ٢٠١٨ كانت قد تبلورت بتأثير مباشر من ثورات المنطقة العربية وقتذاك، حيث بدأت التنظيمات المهنية فى ترتيب أوراقها لقيادة معارضة ضد البشير كان هدفها النهائى إضعاف النظام والثورة عليه.
فى هذا السياق، تبلور تجمع المهنيين السودانيين، وقام بمحاولة إزاحة البشير فى سبتمبر ٢٠١٣ حينما اندلع الغضب ضد النظام السودانى بمظاهرات عارمة، ولكنه استطاع تطويق هذه المظاهرات بتدخل أمنى وحشى، حيث وقع ما يزيد على ٢٠٠ شخص كضحايا. وقد واصل تجمع المهنيين نضاله السياسى، ولكن على أسس مطلبية خاصة بالأجور، وقد تطورت هذه الأسس عام ٢٠١٩ بتدخل من قوى الإجماع الوطنى (أحد تحالفات المعارضة ضد البشير).
وقد قاد تجمع المهنيين الثورة السودانية ضمن إطار واسع تكون فى الأول يناير ٢٠٢٠ وتمت تسميته بتحالف الحرية والتغيير، وهو التحالف الذى قاد الثورة وضم كل الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية، ومنظمات المجتمع المدنى وكانت نواته الصلبة هو تجمع المهنيين. وعلى مدى عامين من عمر الفترة الانتقالية تعرض تحالف الحرية والتغيير وتجمع المهنيين لعوامل التآكل والانقسام، وذلك لعدد من الأسباب منها:
- دور المكون العسكرى فى صناعة اتفاقية جوبا للسلام فى ٢٠٢٠، وما ترتب على ذلك من زيادة وزنه خصوصاً فى إطار علاقاته مع الحركات المسلحة، على نحو دفع كلاً من حاكم دارفور منى أركو مناوى ووزير المالية خليل إبراهيم للانحياز إليه فى قيادة باقى المرحلة الانتقالية وإعلانهما انسلاخاً من تحالف الحرية والتغيير تمت تسميته بميثاق التوافق الوطنى، وهو الانقسام الذى بلور مظاهرات فى ١٦ أكتوبر الماضى، واعتصم مؤيدوه أمام القصر الجمهورى.
- انسلاخ الحزب الشيوعى من تحالف الحرية والتغيير، على خلفية صيغة المجلس السيادى المشتركة بين المكونين المدنى والعسكرى، معتبراً ذلك خطأ استراتيجياً مؤسساً على ما أسماه شراكة الدم. وقد أسهم هذا الانسحاب فى انقسام تجمع المهنيين على خلفية انتخابات داخلية لم تفرز إلا عناصر الحزب الشيوعى، وهو ما رفضته باقى المكونات.
- اتجاه بعض مكونات الحرية والتغيير من أحزاب لها طابع قومى لإسناد المكون العسكرى فى التفاعلات السياسية، والمساهمة فى رفع وزنه إزاء الأحزاب السياسية الأخرى، وهو ما نتج عنه ترهل فى الحرية والتغيير الحاضنة السياسية للحكومة التنفيذية بقيادة عبدالله حمدوك، على نحو جعل الأخير يتبنى مبادرة تسعى لوحدة الحرية والتغيير حفاظاً على وزنه السياسى فى المعادلة.
- انقسام تجمع المهنيين بين مناصرين للحزب الشيوعى وغيره من باقى أحزاب الحرية والتغيير، حيث مارس الفريق الأول ضغوطاً سياسية على باقى المكونات تحت مظلة حالة الشراكة التى تم إقرارها فى الوثيقة الدستورية بين المكون المدنى والمكون العسكرى فى إدارة الفترة الانتقالية، وهى الشراكة التى تم إطلاق اسم «شراكة الدم» عليها نظراً لتعطيل لجان تحقيق أحداث اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة الذى تم فضه فى ٣ يونيو ٢٠١٩ بالقوة ووقع فيه قتلى.
النتيجة النهائية لهذه التفاعلات الممتدة كانت خللاً فى ميزان القوى لصالح المكون العسكرى، وذلك على الرغم من العديد من الضغوط التى تمت بلورتها دولياً بشأن إضعاف قدراته؛ فعلى الصعيد الأمريكى، أصدر الكونجرس قانوناً فى ديسمبر ٢٠٢٠، توافق عليه الحزبان الديمقراطى والجمهورى، يلزم وزارة الخارجية الأمريكية بتفصيل سياستها وإجراءاتها فى مجالات دعم كل من حقوق الإنسان والشفافية خصوصاً على الصعيد الاقتصادى، كما يلزم الرئيس الأمريكى بتقديم تقرير فصلى عن مدى تقدم إدارته فى هذه العملية، فضلا عن مجمل سياسات وإجراءات الدعم للفترة الانتقالية، والتحول الديمقراطى.
أزمة شرق السودان
برزت مشكلة شرق السودان كسبب مباشر لمدى الضيق والضغط الذى تسببت فيه لجنة إزالة التمكين لعناصر نظام البشير على الصعيدين السياسى والاقتصادى، وكذلك الرغبة فى إضعاف المكون المدنى، حيث طالب محمد الأمين ترك، رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا بشرق السودان، بإنهاء أعمال لجنة إزالة التمكين، وتكوين مجلس عسكرى جديد يكون ممثلاً لأقاليم السودان الستة، وكذلك تغيير حكومة حمدوك، وذلك كله تحت مظلة المطالبة بإلغاء مسار الشرق فى اتفاقية جوبا للسلام الموقعة بين الحكومة والفصائل المسلحة فى أكتوبر ٢٠٢٠.
المطالب الثلاثة لإقليم شرق السودان أسفرت عن ارتباك المشهد السياسى وتبادل الاتهامات بشأن الأطراف المسئولة عن امتداده على الرغم من تهديده للأمن القومى السودانى، حيث يتحكم إقليم الشرق فى تواصل السودان مع العالم من منصة البحر الأحمر، ويؤثر إغلاقه على الإمدادات الحيوية للدولة التى تلبى ٧٠٪ من احتياجاتها من الخارج خصوصاً من الوقود والأغذية والأدوية، وهى الإمدادات التى برز شحها بالأسواق خلال الفترة الماضية. كما يؤثر إغلاق إقليم شرق السودان على اقتصادات دولة جنوب السودان عبر تصديره النفط الذى تشكل موارده جل الموازنة الجنوب سودانية تقريباً ويتم تصديره من ميناء بشاير الذى تم إغلاقه مع مجمل موانى شرق السودان. فى هذا السياق، اعتبر جانب من الشارع السياسى السودانى أن أحداث الشرق كانت مصنوعة بهدف عدم تسليم رئاسة السلطة الانتقالية للمكون المدنى.
أزمة المحاولة الانقلابية الفاشلة
فى أعقاب المحاولة الانقلابية الفاشلة التى تم الإعلان عنها فى ٢١ سبتمبر الماضى، سعى طرفا المعادلة السياسية السودانية إلى استثمار الحدث كل لصالحه، حيث تم تحميل المكون المدنى مسئولية الانقلاب الفاشل كنتيجة لفشل الحكومة وحاضنتها السياسية فى مواجهة الأزمات المتفاقمة على الصعيد الاقتصادى المؤثرة على حياة الناس اليومية، والانشغال بتقاسم المناصب، بينما اعتبر المكون المدنى هذه الاتهامات مقدمة لانقلاب واقعى ضده.
وقد أسهم الإسناد الأمريكى للمكون المدنى فى هذه المعركة فى بلورة مطلب تجمع المهنيين بإنهاء الشراكة مع المكون العسكرى وتسليم كل السلطة للمكون المدنى، وهى الخطوة التى رد عليها المكون العسكرى بأن «القوات المسلحة وصى أمين على أمن الشعب السودانى»، وسحب حراسات القوات الأمنية المشتركة من لجنة إزالة التمكين وحوالى ٢٢ موقعاً اقتصادياً كانت تحت ولاياتها، كما أوقف الاجتماعات مع المكون المدنى، واتهم بعض عناصره بـ«الولاءات المزدوجة»، وقال النائب الأول لرئيس مجلس السيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو: «لدينا شارع»، رداً على استقواء الحرية والتغيير بالشارع السودانى، بما ينذر بإمكان اندلاع مواجهات بين القوى الثورية ومنتسبى نظام البشير، والجبهة القومية الإسلامية، وذلك تحت مظلة تكدس السلاح فى العاصمة السودانية وغيرها من المناطق.
فى هذا السياق، أعلن كل من جبريل إبراهيم وزير المالية، ومنى أركو مناوى حاكم إقليم دارفور، مطالبتهما بتغيير الحكومة وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية، حيث اعتصما بمناصريهما، خصوصاً من بعض التكوينات القبلية أمام القصر الجمهورى فى ١٦ أكتوبر الماضى، فى وقت بذل فيه رئيس الوزراء د. عبدلله حمدوك محاولات لإنهاء الأزمة السياسية، وذلك بتكوين لجنة سباعية، حيث رد المجلس المركزى لتحالف الحرية والتغيير برفض محاور مقترحة للحوار السياسى، لاسيما فيما يرتبط بنطاقات توسيع المشاركة السياسية التى اشترط ألا تكون من النظام القديم، وقال ياسر عرمان إن التوسع قد يكون من لجان المقاومة والحزب الشيوعى وذلك فى آخر مؤتمر صحفى للحرية والتغيير، حيث استند المجلس المركزى فى ذلك إلى قواعده الجماهيرية التى خرجت بالفعل لمناصرة مبدأ التحول الديمقراطى فى حشود غفيرة يوم ٢١ أكتوبر الذى يحمل رمزية كبيرة فى التاريخ السياسى السودانى، وذلك على الرغم من أخطاء مشهودة للحكومة السودانية وحاضنتها السياسية الحرية والتغيير.
نقطة النهاية للتفاعلات السياسية المأزومة بين المكونين المدنى والعسكرى وضعها الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادى، فى بيان صدر قبل ساعات اعلن فيه حل كل من الحكومة والمجلس الانتقالى وفرض حالة الطوارئ مع تعطيل بعض مواد الوثيقة الدستورية، وذلك بعد حملة اعتقالات واسعة لأعضاء فى كل من المجلس السيادى والحكومة وبعض قادة الأحزاب السياسية.
فى هذا البيان تم تقديم تطمينات على المستويين الداخلى والخارجى. على المستوى الداخلى، أعلن عن تشكيل حكومة كفاءات بعد فترة مما أسماه «التشاكس السياسى»، والالتزام بوثيقة سلام جوبا، وكذلك حل أزمة الشرق وتدشين الهياكل الانتقالية من مجلس تشريعى، ومحكمة دستورية وغيره. أما على المستوى الخارجى، فقد التزم بتسليم السلطة طبقاً للوثيقة الدستورية، ولكن عام ٢٠٢٣.
إجمالاً، يمكن القول إنه سيتم اختبار مدى القدرة على صناعة استقرار سياسى فى السودان فى المرحلة المقبلة، وذلك فى ضوء عاملين: الأول، موقف المجتمع الدولى وخصوصاً الولايات المتحدة من هذا التطور الذى جرى بينما مبعوث الرئيس الأمريكى جيفرى فيلتمان فى الخرطرم، وهو ما سوف تترتب عليه حالة التفاعل الإقليمى من حيث الإسناد من عدمه لحل الحكومة والمجلس السيادى.
والثانى، الموقف الداخلى، على المستوى الجماهيرى، من هذا التطور وحالة التفاعل معه، خصوصاً فى ضوء أزمة اقتصادية محتدمة يعانى منها عموم الناس، ويتطلعون إلى إنهائها، ووجود لجان شبابية فى الأحياء السودانية وخروج بعض المظاهرات واختفاء الصف الثانى من قيادات الأحزاب السودانية، وهو ما قد يسفر عن مواجهات متوقعة قد تأخذ طابعاً عنيفاً.
لمزيد من مقالات د. أمانى الطويل رابط دائم: