رغم أن الانتخابات البرلمانية العراقية المُبكِّرة، التي أُجريت في 10 أكتوبر الحالي، جاءت استجابة لضغط الشارع و«حراك تشرين»، فإنها لم تشهد تغييرات جذرية في تركيبة التكتلات والقوى السياسية المتصدرة للمشهد السياسي، إذ اقتصر التغيير الحقيقي الذي شهدته هذه الانتخابات على إعادة صياغة خريطة التوازنات السياسية لهذه القوى، دون خروج أي منها من المشهد.
لكن ذلك لم يكن هو التغيير الوحيد الذي فرضته نتائج الانتخابات، إذ أنها طرحت أيضاً دلالتين مهمتين على صعيد علاقات العراق الإقليمية، تتمثل الأولى، في تعزيز موقف القوى السياسية المؤيدة لتحرك العراق في محيطه العربي، وبالتالي الاستمرار في نهج الاهتمام بالدائرة العربية الذي أبدته القيادة السياسية للبلاد خلال الأشهر الماضية، حيث حصل تحالف «سائرون» التابع للتيار الصدري على 73 مقعداً من أصل 329 مقعداً. كما حلّ تحالف «تقدم» السني في المرتبة الثانية بحصوله على 41 مقعداً، وهى نتائج يمكن أن تلمح بأن العراق مقبل على مرحلة جديدة قد تُعاد فيها صياغة السياستين الداخلية والخارجية بشكل أكثر توازناً سواء إزاء القضايا المحلية أو العلاقات مع دول الجوار.
وقد تجلت مؤشرات اهتمام العراق بمحيطه الإقليمي العربي في انفتاحه على الأردن ومصر ودول الخليج، بل والقيام بدور الوسيط بين إيران والسعودية، حيث شهدت العاصمة عدة جولات من مباحثات التفاهم بين الطرفين، وهى مؤشرات في مجملها توضح أن ثمة توجهاً أو على الأقل رغبة عراقية في أن يكون العراق نقطة توازن في محيطه الإقليمي، أكثر من كونه نقطة ارتكاز في محور من محاور المنطقة المتنافسة.
ولعل التصريحات التي أكد فيها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر- عقب إعلان فوز التيار بالمركز الأول في الانتخابات- أن جميع السفارات مرحب بها في العراق طالما لا تتدخل في الشئون الداخلية للعراق، ولا تسعى للتأثير على عملية تشكيل الحكومة، تشير في مضمونها إلى قبول تيار الأغلبية في الانتخابات لمسار سياسة الدولة قبل الانتخابات، الساعي إلى انفتاح العراق على الأطراف كافة، ولكن وفق ضوابط عدم التدخل في شئون البلاد والتأثير على المسار السياسي، وهو اتجاه ثابت للتيار الصدري الذي دعم «حراك تشرين»، ورفض التدخلات الخارجية، وهى الدعوات التي لم تلق قبولاً لدى القوى السياسية الموالية لإيران التي بدأت حملة للتشكيك في نتائج الانتخابات، لاسيما مع تأكيد التيار على ضرورة حصر السلاح في يد الدولة، وتخليص البلاد من أزمة السلاح المنفلت، مما يعني ضمنياً تجريد حلفاء إيران في الداخل العراقي من مصادر قوتهم وتأثيرهم على الشارع والقرار السياسي على حدٍ سواء.
تراجع الحشد الولائي
تتعلق الدلالة الثانية، بتصاعد تأثير التصويت العقابي، حيث تراجعت الأحزاب والتنظيمات الموالية لإيران، على نحو بدا جلياً في حصولها على عدد أقل من المقاعد، ربما باستثناء «ائتلاف دولة القانون» الذي حل في المركز الثالث، وهو ما يُعد في حد ذاته مؤشراً على عدم قبول الشارع للنفوذ الإيراني في الحياة السياسية العراقية، حيث حصل «تحالف الفتح» على 14 مقعداً، متراجعاً بذلك عن المرتبة الثانية التي حققها في الدورة البرلمانية السابقة بحصوله على 47 مقعداً، كما حصل تحالف «قوى الدولة» الذي يضم رئيس تيار الحكمة عمار الحكيم، ورئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، على 20 مقعداً فقط.
وبالتالي، لم تستطع أي من هذه القوى تحقيق الحد الأدنى الذي كانت تتوقعه، وهو ما دفع عددا من قادتها إلى إبداء رفضهم لنتائج الانتخابات، بل وذهب بعضهم للتلويح بقوة السلاح، حيث وصف القيادي في «الحشد الشعبي» هادي العامري وزعيم «تحالف الفتح» الانتخابات بـ «المفبركة»، معلناً السعي بـ «كل ما هو ممكن لإلغاء هذه النتائج»، وهو موقف تصعيدي استثنائي، جاء ضمن سلسلة تهديدات باستخدام العنف، بالتوازي مع الحديث عن محاولات إيران الدفع بقيادات مهمة في محاولة لتغيير نتائج الانتخابات أو على الأقل عقد تحالفات من شأنها تقوية وضع حلفائها في تشكيل الحكومة الجديدة.
إذ كشفت تقارير عن زيارة قائد «فيلق القدس» إسماعيل قاآني إلى بغداد للضغط على الفائزين في الانتخابات لإعطاء دور مهم لتحالف الفتح في الحكومة الجديدة، إلا أن السفير الإيراني في العراق إيرج مسجدي سارع بنفي خبر زيارة قاآني، مؤكداً عدم تواجد أي مسئول إيراني في العراق عقب الانتخابات، فيما أثارت زيارة محمد كوثراني مسئول الملف العراقي في حزب الله اللبناني إلى بغداد ردود فعل شعبية عنيفة تدعو إلى طرده من البلاد، وعدم الاستجابة للضغوط التي جاء ليمارسها لتغيير نتائج الانتخابات.
وفي سياق هذه النتائج، تجد إيران نفسها أمام تحدي استمرار نفوذها فى العراق بالقوة ذاتها والمرونة نفسها، لاسيما مع صعود قوى مناوئة لهذا النفوذ، وإن لم تكن معادية لإيران في حد ذاتها، وهو ما يؤثر على دورها في الوصول إلى تفاهمات حول تشكيل الحكومة واختيار رئيس الوزراء، مما يعني في النهاية تقليص فرصها إلى حد ما في تشكيل ملامح المشهد السياسي العراقي.
تغيير مُؤجَّل
في ظل هذه المعطيات، يبدو أنه مازال مبكراً الجزم بحدوث تغييرات جذرية على صعيد اتجاهات علاقات العراق الإقليمية، ليس فقط اعتماداً على تأثير تغير توازنات القوى في الداخل العراقي بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة، إذ إن هذه التوازنات الجديدة تحتاج إلى مزيد من الوقت لتقييم قدرتها على إحداث تغيير فعلي على الأرض، وإنما اعتماداً أيضاً على قدرة الأطراف الإقليمية المختلفة على التأثير في القرار السياسي العراقي في هذا السياق، لاسيما في ظل افتقار المحيط العربي للعراق لجماعات ضغط في الداخل العراقي من شأنها تفعيل العلاقات العراقية– العربية، في الوقت، الذي تمتلك فيه إيران شبكة من جماعات ضغط السياسية والعسكرية والاقتصادية تستطيع التأثير في الدخل العراقي، حيث لم ينتج عن الانتخابات البرلمانية سوى انكشاف غطاء الدعم الشعبي لهذه الجماعات ذات الولاء الإيراني، مما أدى إلى تراجع أعداد مقاعدها، وبالتالي تقليص فرص تشكيلها للحكومة، لكن مع استمرار بقائها في المشهد السياسي.
لمزيد من مقالات رانيا مكرم رابط دائم: