كتبت أن انتصار حرب أكتوبر 1973 كان جهدًا مصريًا تضافرت على إنجازه كل القوى الحية فى الوطن وفى قلبها القوات المسلحة، فكانت هناك أدوار للدبلوماسية والاقتصاد والإعلام والدين ومراكز البحوث. وأعرض فى هذا المقال لشهادة دبلوماسى عاصر الاستعدادات لخوض الحرب من موقع قريب من صُنع القرار ومُتابعة تنفيذه، وهو السفير أحمد أبو الغيط الذى عمل وقتها فى مكتب واحد من رجال مصر الأفذاذ والذى امتدت خبرته لتشمل مجالات الحرب والمُخابرات والسياسة الخارجية، وهو حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومى للرئيس أنور السادات.
وتدرج بعدها أبو الغيط فى السلم الدبلوماسى فأصبح سفيرًا ومندوبًا دائمًا لمصر فى الأمم المتحدة ومساعدًا لوزير الخارجية فوزيرًا للخارجية ثم أمينًا عامًا لجامعة الدول العربية. وهو قارئ نهم، وباحث مدقق، وأذكر أنه على مدى السنوات حدثنى أكثر من مرة لمناقشتى فى واقعة ذكرتها أو تاريخ أشرت إليه ويكون له رأى آخر، ووجدت مناقشاته دائمًا ثرية ومفيدة.
أصدر أبو الغيط فى عام 2013 كتابًا بعنوان «شاهد على الحرب والسلام»، يروى فيه مشاهداته عما حدث خلال عمله مع حافظ إسماعيل فى الفترة من أغسطس 1972 إلى فبراير 1974، وأتاح له ذلك معرفة الكثير من الاتصالات السياسية والدبلوماسية، ثم جاءته فرصة العمر عندما طلب منه السفير عبدالهادى مخلوف مدير مكتب حافظ إسماعيل فى يناير 1974 جرد وتسجيل وفهرسة أوراق المكتب وتحديد مستوى أهمية كل منها، فقرأ نصوص مقابلات الرئيس السادات مع القادة العرب والأجانب، وكذلك محاضر اجتماعات مُستشار الأمن القومى ومُقابلاته. وقد أعطاه كل ذلك جُرعة كبيرة من المعلومات عن مرحلة الاستعداد لحرب 1973. وأريد فى هذا المقال أن أعرض عددا من المُشاهدات والمُلاحظات التى سجلها أبو الغيط.
توقف المؤلف أمام زيارة هذا الضابط الأسمر فى أحد أيام أغسطس 1973 والتى تكررت مرتين بعد ذلك. اتضح أن هذا الضابط هو العميد طه المجدوب رئيس فرع الخطط بهيئة عمليات القوات المسلحة، وتبين له فيما بعد أن المجدوب جاء موفدًا من أحمد إسماعيل وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة لإطلاع حافظ إسماعيل على خطة الحرب وأهدافها الإستراتيجية والتعبوية، وإطارها الزمنى المرغوب فيه. ويُضيف المؤلف أنه اطلع بعد الحرب على خطتى «جرانيت1» و«جرانيت2» التى كان المجدوب قد تركهما عند حافظ إسماعيل لدراستهما والاطلاع عليهما ومناقشتهما مع وزير الدفاع.
ولاحظ المؤلف من متابعته لتقارير وزارة الخارجية زيادة ملحوظة فى أحاديث الدبلوماسيين الأجانب مع السفراء المصريين فى العواصم المختلفة وتحذيرهم من مغبة قيام مصر بعمل عسكرى وأنه سوف يجر عليها عواقب وخيمة، وشارك فى هذه الأحاديث حليف مصر الرئيسى وقتذاك وهو الاتحاد السوفيتى والذى لم يقتنع قادته بأن مصر لديها القوة العسكرية التى تمكنها من شن حرب ضد إسرائيل ولا بامتلاك قادتها العسكريين التأهيل الكافى للتخطيط لمثل هذه الحرب وإدارتها. وكان من شأن هذه الأحاديث زيادة الضغوط النفسية على القيادة السياسية المِصرية.
وكانت هناك فى الوقت نفسه محاولات للوصول إلى تسوية سلمية وتحاشى الحرب، كان منها ماقام به الرئيس الرومانى نيكولا تشاوشيسكو، والرئيس اليوجسلافى جوزيف تيتو. فقام حافظ إسماعيل بزيارة إلى البلدين فى النصف الثانى من أغسطس رافقه فيها مدير مكتبه السفير مخلوف والدبلوماسى الشاب أبو الغيط. ونقل إسماعيل فى البلدين وجهة نظر الرئيس السادات بأن مصر مستعدة لبدء مفاوضات غير مباشرة أو مفاوضات عن قرب مع إسرائيل بالتعاون مع بوخارست أو بلجراد، متسائلًا عما إذا كانت رئيسة الوزراء جولدا مائير لديها القدرة التى تمكنها من المضى قدما فى هذا الطريق أم لا؟ وطلب منهما نقل الرسالة إلى إسرائيل وكانت إجابتها متكبرة ومتعجرفة وأغلقت الباب أمام هذه الجهود.
وإزاء تلك الاتصالات والتحركات، مضت مصر فى التواصُل مع مختلف دول العالم بما فى ذلك الدول الغربية الكُبرى كفرنسا وانجلترا لشرح وجهة نظرها ولتضييق الخناق على إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة فى مجلس الأمن، فأكدت عدم شرعية الاحتلال الإسرائيلى لسيناء، وبنت قاعدة من التأييد الدولى الذى سوف تحتاجه مصر عند قيام الحرب. فقرر السادات أن تتقدم مصر بطلب لدعوة المجلس إلى الاجتماع. وحرصًا على سرية الاتصالات بهذا الشأن، تم تكليف أبو الغيط بالسفر لباريس فى يوليو 1973 لإبلاغ وزير الخارجية محمد حسن الزيات بهذا التوجيه الرئاسى. وبالفعل، انعقد المجلس وأيَّد أعضاؤه المطالب المصرية بأغلبية 14صوتًا ولكن القرار لم يصدُر لاستخدام واشنطن حق الفيتو.
زادت الضغوط الدبلوماسية على السادات بعد إعلان الحرب فطالب كيسنجر مصر بوقف القتال وعودة قواتها إلى الضفة الغربية للقناة. وسجل أبو الغيط فى يومياته يوم 10 أكتوبر أن السوفيت كثفوا من اتصالاتهم مع الرئيس لوقف إطلاق النار. وعندما رفض ذلك بحزم، اتخذوا القرار بإرسال الإمدادات إلى الجيشين المصرى والسورى لتعويض الخسائر وتلبية الاحتياجات وإن كان قد لاحظ أن السوفيت كانوا أكثر تجاوبًا وسخاءً مع الجيش السورى مُقارنة بنظيره المصرى.
وتظلُ حرب أكتوبر حدثًا إنسانيًا وتاريخيًا رائعًا أظهر فيه المصريون أفضل ما فيهم من قيم ومُثل وتضامُن، واسترجاع هذه الروح هى ضرورة استدامة التقدم والتنمية فى بلادنا.
لمزيد من مقالات د. على الدين هلال رابط دائم: