فى الوقت الذى تطلق فيه الدولة مبادرات تنموية كبرى، وتتبنى مشروعات قومية واسعة النطاق فى مجالات عديدة، وتطفو على السطح قضايا ملحة تتصل بالتعليم، والإصلاح الاقتصادى وغيرها، نجد قطاعًا من الناس ينشغل بموضوعات أقل ما توصف به أنها تثير نقاشات لا تصب فى تقدم المجتمع، وهى ظاهرة ليست جديدة، رأيناها كثيرا من قبل، وأدركنا من يحركها، ولكن أن تحدث فى هذه الأجواء فإن الأمر يحتاج إلى نقاش. من أمثلة هذه القضايا الجدل حول ملابس ممثلة، أو الانخراط فى تعليقات غير فنية على أحد الأعمال السينمائية، أو الانشغال بتصريحات مجتزأة أو حتى ملفقة لمسئولين بما يدخل فى بند الشائعات، وعادة ما يمثل الفضاء الالكترونى مرآة كاشفة لهذا النمط من الأحاديث التى تملأ الدنيا غبارًا، ولا تقدم شيئًا لهذا المجتمع.
نحن لسنا فى مجال تقديم نصائح أو توجيه اتهامات، ولكن نتساءل لماذا آلت شريحة من الناس إلى الانشغال بمسائل لا تتصل بتطوير نوعية الحياة التى يعيشونها؟ وهل مستقبل مصر معلق على فستان ممثلة أو فيلم سينمائى أو حكايات النميمة أو الآراء الدينية المتزمتة؟ كم من روايات وأفلام وصفت بانها مسيئة انشغل بها المجتمع فى العقود السابقة، وأدار حولها المعارك، واشتعلت الأجواء ثم انفض السامر، ولم يؤد الأمر إلى شيء، بل ونسى الناس حتى اسماءها. وهل هذه المرة الأولى التى ينشغل فيها البعض بملابس الفنانات خاصة فى المهرجانات؟ تكاد تكون ممارسة ثابتة تتكرر فى كل مناسبة مشابهة. ورغم ذلك، لايزال قطاع من المجتمع يجد نفسه فى هذا الشكل من الثرثرة الالكترونية التى لا تؤتى أى ثمار.
هناك أسباب عديدة وراء استمرار هذه الحالة، التى تتجدد من آن لآخر، أهمها خلو الذهن من القضايا الجادة، وهذه مسئولية مشتركة للهيئات والمؤسسات التى تقوم على التعليم، والثقافة، والإعلام، والخطابات الدينية، حيث لا يجد المرء، خاصة الشباب، ما يدفعه إلى الانشغال بقضايا رصينة. رغم كل الحديث الممتد لسنوات عن أهمية التطوير، لا تزال الموضوعات تُطرح بشكل تقليدي، ويسود الخوف من الاجتهاد، والابتعاد عن إطلاق أفكار أو آراء تحرض على التفكير. وقد أدى ذلك إلى زيادة منسوب المناخ المحافظ الذى يخيم ثقافيا واجتماعيا على المجتمع، وانحصر الحديث عن التطوير أو التغيير فى استخدام لغة مختلفة تعبر عن نفس الظواهر القديمة التى نود تغييرها دون امتلاك جسارة النفاذ إلى أعماقها. وهنا يبدو التناقض بين خطابات تدعو إلى تحرير العقل وأخرى تعمل على تقييده، وتظل نفس المساجلات التى ألفناها فى العقود السابقة دون تحول ملموس، ولكن ما يقلق هذه المرة هو رغبة كثيرين فى إيثار السلامة، وعدم القدرة على خوض معارك فكرية حقيقية. من هنا لا نستغرب من عودة ترسانة المصطلحات التى كانت تستخدم فى عقود سابقة لحصار الإبداع والمبدعين، وتخويفهم من المضى على طريق تحرير العقل. ويظل السؤال لماذا يخوض المجتمع معركة ضد مستقبله؟
السبب يرجع إلى أن وكلاء الثقافة المحافظة، وأحيانا المتطرفة، التى تمثل نقيضا للتقدم، يحاربون المعركة بالكمون، والانتشار بين طبقات المجتمع، يزعجهم التحديث الذى يجرى فى البنية الأساسية، والتنمية، والرعاية الاجتماعية، وغيرها، ويقاومون امتداد جهود التحديث إلى الثقافة، وهدفهم أن يأتى يوم يحمل فيه المناخ المحافظ على كاهله المشروع السياسى الذى يوظف الدين مرة أخرى، والذى يعرف على مدار عقود طويلة من خبرة الكر والفر أن الثقافة المحافظة هى البنية الأساسية الاجتماعية التى تضمن له الوجود، حتى لو ظل بعيدا عن المشهد السياسي، هى المخزون الاستراتيجى بالنسبة له، يستدعيها حين تحين اللحظة، وبالتالى كل خطوة يمضى فيها المجتمع على طريق التحديث الثقافى تخصم من رصيد التطرف الاجتماعي، وتقوض فرصه فى المستقبل. ولعل ذلك يجيب عن سؤال كثيرا ألح علينا: لماذا تصعد وتهبط المشروعات السياسية الدينية؟ التفسير الواضح هو استمرار البنية الثقافية التى تسمح بهذه المراوحة التاريخية، ولا سبيل لتقويضها سوى انشغال الناس بقضايا التطور والتقدم، والانصراف عن توافه الأمور، التى تخدم فى نهاية المطاف استمرار الفكر المتشدد اجتماعيا وثقافيا، الذى يعد الأب الشرعى للتشدد السياسي، وكلاهما ينهلان من نفس المجرى، ويخدمان نفس المشروع، وإن اختلف الشكل والمسمى.
لمزيد من مقالات د. سامح فوزى رابط دائم: