رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

رحلة إلى آخر الليل

كأنه يغوص فى جرح، يتوغل بنا الروائى الفرنسى فرديناند سيلين (١٨٩٤- ١٩٦١) فى ظلمات الليل المتكاثفة، فى استخدام مجازى لتلك العتمة التى تلفنا فى نصف زمن وجودنا على الأرض، لكنها فى رواية سيلين الأولى، التى أعطاها عنوان رحلة إلى آخر الليل (١٩٣٢)، ليل سرمد يمتد بامتداد أحداث هذه الرواية الضخمة (٧٠٠ صفحة من القطع الكبير) والتى يستغرق زمن أحداثها نحو عشرين عاماً. وقبل أن نغوص معاً الآن فى شجنها الليلىّ، أحب أن أحَيى الجهد الرائع لمترجم الرواية الأستاذ عاصم عبد ربه، ليس فقط لتصديه لعمل بهذه الضخامة من حيث الكم؛ بل الأهم أنه خاض تحدياً كبيراً لأى مترجم: فكما يشرح لنا فى مقدمته الوافية، يتميز أسلوب سيلين، فى هذا العمل وما تلاه، بسمات شديدة الخصوصية من حيث اللغة, تتطلب مترجماً ملماً بكل أبعاد الفرنسية، خاصة فى زمن كتابة هذه الرواية؛ لأن سيلين يتمرد على لغة السرد التقليدية، فيكتب بفرنسية الحديث اليومى لطبقة العمال فى زمنه، بل ويلجأ أيضاً - مع تقلبات أحداث الرواية - إلى الرُطان الخاص لأهل البحر أحياناً، أو لأهل الطب فى أحيان أخرى، وكرة ثالثة للدارجة الخاصة بجنود الجيش. والاضطلاع بكل هذا يتطلب من المترجم شجاعة هرقلية وقدرة استثنائية.

نعود إلى (ليل) سيلين، فنقول إنه استخدم مجاز الظلمة الشائع ليحكى من خلاله حكاية تشبه إلى حد ما – فى خطوطها العريضة - سيرته الذاتية، وما هى بسيرة ذاتية له. ورغم أن الاستخدام الاستعارى لظلمة الليل هو حيلة شعرية مستهلكة تماماً، إلا أن الحكاية التى حكاها والأسلوب الذى حكاها به يرتفع بالرواية إلى مصاف الأعمال الرائدة فى فن الرواية التى جاد بها النصف الأول من القرن العشرين، ويضعها إلى جوار عوليس لجيمس جويس فى الأدب المكتوب بالإنجليزية, والبحث عن الزمن الضائع لمارسيل بروست فى الفرنسية، وقد ألهمت (رحلة) سيلين الليلية هذه عمالقة فى الرواية العالمية مثل الألمانى جونتر جراس، وفى فرنسا تأثر به كامى وسارتر وسيمون دى بوفوار, رغم اعتراضهم الشديد على عدمية سيلين وفوضويته من ناحية, وعلى بعض مواقفه السياسية التى أغضبت الكثيرين وانتهت به إلى المنفى والسجن فى السنين التى أعقبت الحرب العالمية الثانية, وذلك بتهمة التعامل مع النازيين أثناء الحرب, حتى صدر العفو عنه فى أوائل الخمسينيات.

ولكى نفهم سر هذا النبذ السياسىّ الذى أثر بالتأكيد على الاحتفاء الأدبى بفرديناند سيلين فى وطنه وخارجه، بناء على موقفه المهادن للفاشية قبيل وأثناء الحرب العالمية الثانية، لابد من الرجوع إلى روايته الأولى، تلك الرحلة إلى آخر الليل التى تبدأ عتمتها بتجربته الشخصية لقتال الخنادق الرهيب أثناء الحرب العالمية الأولى, ذلك التطاحن الذى امتد لسنين فى مجزرة لم تشهد البشرية مثيلاً لها من قبل، والتى عاشها الكاتب, ولكن بشجاعة نال لقاءها وساماً وخرج من الحرب مصاباً مرفوع الرأس، بعكس بطل روايته الذى يحمل نفس اسم الكاتب فرديناند, لكنه لم يكن يشبهه إطلاقاً من حيث الشجاعة، بل أظهر هو وكثير من رفاقه – كما تحكى الرواية- جبناً وتعاسة وعزماً خائراً ورغبة مجنونة فى الحياة، فى ظل حرب لم يفهموا أبداً أسبابها التى تبرر كل هذا الموت المجانى. ورغم أن الحرب لم تكن إلا النغمة الأولى فى لحن سيلين الحزين، والطبقة الأولى فقط من طبقات عتمة الليل المتراكمة المتراكبة التى خاضها بطل الرواية مع من قابلهم فى (ليل) حكايته ، فإن تأثير تلك الحرب على الكاتب نفسه لوى فرديناند سيلين كان حاسماً: لقد خرج من الحرب كارهاً لها وكافراً بها، ولهذا صار يدعو مع ظهور هتلر لمهادنة الفاشيست.. ولرحلة الليل بقية.


لمزيد من مقالات بهاء چاهين

رابط دائم: