رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

المحامى الأشهر إبراهيم الهلباوى «11»

من حق من يتابع صفحات الهلباوى الوطنية بعد دنشواى، أن يتساءل: هل كان انحيازه للحركة الوطنية، ذلك الانحياز الظاهر، نابعا من قلبه وعقيدته ومبادئه، أم كان مجرد مداراة للاعتذار عن دوره فى محاكمة دنشواى، لتبييض صفحته أمام الرأى العام.

وأستطيع أن أؤكد من دراستى لمسيرته، أنه كان صادق النية والعزم فى وقوفه مع الحركة الوطنية، وقوفا نابعا من قلبه وعقيدته ومبادئه. تأكد لى ذلك من مراجعة مواقفه وسيرته قبل دنشواى ، فرأيته وطنيّا من قمة رأسه إلى أخمص قدميه ، مما يدل على أن سقطة دنشواى كانت خارج السياق لاعتبارات أخطأ ـ بحسن نية ـ فى تقديرها .

فى عام 1896، قبل دنشواى بسنوات، شجرت أزمة عنيفة بين كتشنر والشيخ على يوسف صاحب جريدة المؤيد لسان حال الحركة الوطنية، بسبب نشرها لبرقية وافاها بصورتها عامل التلغراف توفيق كيرلس صادرة من اللورد كتشنر سردار الجيش المصرى عن أحوال الحملة على دنقلة بالسودان، وتضمنت البرقية عدد الوفيات والإصابات فى الحملة فى كل من كروسكو وحَلْفا، فثارت ثائرة كتشنر وسلطات الاحتلال، وأحالت إلى النيابة العامة كلاّ من عامل التلغراف والشيخ على يوسف صاحب المؤيد وناشر البرقية، بيد أن وكيل النيابة محمد فريد شهيد الوطنية، جَاهَر بتعاطفه ومال إلى حفظ القضية، وازداد الموقف اشتعالا وفرضت سلطات الاحتلال إرادتها وتمت إحالة الدعوى للمحاكمة أمام محكمة عابدين.

ويبدو أن محمد فريد لم يكن الوحيد من المصريين المتعاطف مع الشيخ على يوسف وعامل التلغراف، وهنا يروى الأستاذ إبراهيم الهلباوى فى مذكراته أنه كان بإجازة يمضيها مع أسرته فى جنيف، فجاءه رسول من القاهرة موفد لاستدعائه إلى مصر للدفاع عن الشيخ على يوسف، فلبى النداء، وعاد سريعا وعائلته إلى الوطن.

واضطلع بالدفاع عن المتهمين: الأستاذ الهلباوى، والأستاذ أحمد بك الحسينى من الرعيل الأول للمحامين، ويوم الجلسة 19/11/1896 ازدحمت القاعة عن آخرها، وحضرها كثير من رجال القضاء وأعضاء النيابة ، كما حضرها عبد الخالق ثروت باشا مندوبا من المستشار القضائى محمود بك خيرت.

استعرض الأستاذ الهلباوى فى مرافعته تصرفات النيابة وما فرط منها من انتهاك حرمات المساكن وتوجيه أسئلة عرضت للشبهة والمظان السيئة كتصرفها مع والدة وشقيقة توفيق كيرلس، وعند شرح هذه التصرفات اشتد عطف الجمهور، بل لم يستطع القاضى نفسه إخفاء تأثره، ولما نطقت المحكمة ببراءة الشيخ على يوسف والحكم بثلاثة شهور على عامل التلغراف علا صياح الناس وهتافهم لاستقلال وعدل القضاء.

استأنفت النيابة حكم البراءة. كما استأنف توفيق كيرلس حكم العقوبة، وترافع الهلباوى والحسينى أمام محكمة الاستئناف، وكانت الجلسة برئاسة على باشا ذو الفقار وبعضوية المستشارين المستر كمرون الإنجليزى، ويوسف بك شوقى، وحجزت المحكمة الدعوى للحكم بعد المداولة، وكان الجمهور الذى حضر للنظر فيما يتم فى القضية يملأ ساحات المحكمة الداخلية ويحيط بجوانبها من كل جهة ، وطالت المداولة على غير العادة عدة ساعات وخرجت المحكمة بتأييد الحكم الابتدائى، ولم يستطع المستر كمون عند النطق بالحكم إخفاء غضبه حتى استبان فى وجهه أنه لم يكن موافقا على حكم البراءة .

ما دار فى الداخل، رواه شهيد الوطنية محمد بك فريد فى مذكراته، فأكد أن القاضى الإنجليزى احتد على القاضيين الوطنيين، واتهمهما بأنهما حضرا الحكم قبل الجلسة بإيعاز من الخديو واشتد الخلاف حتى امتنع الإنجليزى عن حضور تلاوة الحكم، لولا حضور بليغ باشا رئيس الاستئناف الذى وفَّقَ بينهم واقتنع الإنجليزى بضرورة الانصياع للأغلبية فخرج وحضر التلاوة رغم أنفه ...

ومن صفحات الأستاذ الهلباوى التى تحسب له، أنه هرع إليه جماعة من شباب الحزب الوطنى، موسطين الأستاذ أحمد لطفى السيد بك ليتولى الدفاع عن أحمد حلمى (جد الأستاذ صلاح جاهين) أحد كتاب الحزب وواصفى يوم التنفيذ فى دنشواى، وكان قد اتهم فى قضية صحفية يمس الدفاع فيها ذات الخديو، وهـم يخشون رفضه لما غمزته به أقلامهم ولاتصاله بالخديو، فقبل الهلباوى القضية قائلا، ليس قبولى لهذه القضية بحاجة إلى وساطة.

وانطلق ناظر الأوقاف، إلى الهلباوى مستشار الأوقاف، يستنكر منه وهو محامى الخديو، أن يحضر ضد الخديو! .. فقال: لست حاضرا إلاَّ عن متهم! فجاءه ناظر الخارجية حسين رشدى باشا، وذكر له أن الخديو مستاء من قبوله هذه القضية، ولكنه صمم. فدعاه ناظر النظار بطرس باشا غالى، ولكنه صمم ، فقال له بطرس باشا لقد كنا نفكر فى أن نستصدر عفوا عن أخيك المحكوم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، لكن تصميمك يجعل الطريق شاقة !..قال: الآن زال شكى وسأترافع.

ترافع الهلباوى عن المتهم، وهو عالم بما سيفقده، لكنه لم يبال بموقعه ورواتبه واتصالاته، وحرية أخيه!.

فلم تمض أسابيع حتى شكلت لجنة لفحص قضايا الأوقاف، لمعرفة هل تستحق القضايا ما يدفع عنها من الأتعاب، ففهم ولم يضيع عليهم وقتهم.. واستقال ليبقى فى مصر عنوانا على الشجاعة. وضمانا ضد السلطة!.

عن فهم الهلباوى لفروسية المحاماة، قال فى مذكراته: أنا معتقد أن واجب المحاماة كثيرا ما يعرض صاحبه إلى الخطر وإنى كنت وما زلت أعتقد أن صناعتى شبيهة، إلى حد ما، بالعسكرى المجاهـد، وهو فى الخندق يقدم نفسه ضحية لوطنه..

وما أبداه الأستاذ الهلباوى صحيح كل الصحة، فرسالة المحاماة تفرض على المحامى خصومات تهدده فى مصالحه، وهو ما حدث للهلباوى، وقد تهدده فى حياته، وما حدث للمحامين من قطع رقابهم على المقصلة فى الثورة الفرنسية جزاء دفاعهم، أبلغ دليل على ذلك!.


لمزيد من مقالات رجائى عطية

رابط دائم: