وأنت تقرأ لإبراهيم أصلان تشعر أنك مع أقرب أصدقائك، حتى لو كنت لا تعرفه شخصيا، لا يريد أن تتخيل أنه يعرف شيئا أنت لا تعرفه، هو يريد أن يحكى حكايته ويتركك لحال سبيلك، خبرته العريضة فى الحياة والناس خلصت لغته من الشحوم، هو يتأمل أحوال ومصائر الذين لا يراهم إلا العطوفون، هو من أعذب أصوات جيل الستينيات، وكل الأجيال بالطبع، لأنه اقترب من المهمشين دون أن يرفع لافتة الرسالة الاجتماعية، حين انضم لكتاب الأهرام قبل عشرين عاما، استغرب كثيرون الزاوية التى يرى العالم من خلالها، كان يرى أن القضايا الكبرى والخطيرة، ليست كبيرة إلا بسبب تأثيرها على العلاقات الإنسانية، علاقة الشخص بنفسه وأولاده والدنيا، وأن المجتمع فيه مياه جوفية على مستوى اللحم والدم، هذه المياه ليست منعزلة عن أية أحداث، وهذا هو الذى يجعل علماء الاجتماع يلجأون الى أعمال نجيب محفوظ وإميل زولا وكافكا وديكنز لقراءة مرحلة ما فى التاريخ، كان بعض القراء يسألونه: لماذا لا تكتب فى السياسة كما يفعل الآخرون؟، وكان يرد عليهم بأن جهاز الاستقبال الخاص به يستقبل الأحداث الكبرى مثل المواطن العادى، وأنه يتابعها باهتمام، ولكن قرون الاستشعار الخاصة بعملية الكتابة مازالت مشغولة بالمحطات الأرضية، التى لم يعد يلجأ إليها أحد، لم يكن صاحب مالك الحزين بحاجة لارتداء قضية كبرى أو حدث كبير لكى يضفى على ما يكتبه أهمية، كان مشغولا بالتفاصيل اليومية العابرة والعادية، وكان يقول لنا إنه قضى عمره يدرب نفسه فنيا ليكون أهلا للتعبير عنها، إبراهيم اصلان هو موزع التلغرافات فى هيئة البريد وهو شاب، وأستاذ صياغتها، تعلم من هذه المهنة الاختزال وكتابة ما هو ضرورى فقط لكى تصل الرسالة، هو صائد الأسماك المشغول بكرة القدم وبهندامه وبالملاكمة وآخر ما وصلت إليه التكنولوجيا، ابراهيم أصلان (1935 ـــ 2012) حالة فريدة فى الثقافة المصرية والعربية، بعد أن ترك هيئة البريد نهاية الثمانينيات من القرن الماضى عمل فى مجلة الوطن العربى التى كانت تصدر فى فرنسا (عن طريق غالى شكرى)، فى اليوم الأول ذهبت معه بسيارته الفولكس البيتلز موديل 1958 الى مقر المجلة (التى كنت محررها الثقافى) فى المهندسين، فرض إيقاعه وقوانينه على العمل بسرعة شديدة.
بعدها بفترة قصيرة انتقل الى جريدة الحياة اللندنية (عن طريق عمرو عبد السميع) مسئولا عن القسم الثقافى بمكتب القاهرة، ومن هناك بدأت تجربته الفريدة فى كتابة المقال الصحفى الذى يجلس خلفه فنان يصنع من الحكايات الجانبية حالات شعرية لا تترك القارئ العام فى حاله، ومن هذه المقالات أصدر كتابيه الجميلين: خلوة الغلبان وشىء من هذا القبيل، هو قال لى فى أحد حواراتى معه إن الدافع الذى جعله يختار هذا الشكل فى كتابة المقال، أنه كان مطلوبا منه المشاركة بالكتابة فى جريدة الحياة (وهى كما تعرف مليئة بالمفكرين)، وأضاف: وباعتبارى من الذين يفكرون بأجسادهم، لم أكن على استعداد أبدا أن أكون كاتب مقال فكرى من الدرجة العاشرة، بينما أنا كاتب قصة فى أول الطريق!، هذا النوع الذى اقترحه فى فن المقال نجح فيما بعد مع مقالاته فى الأهرام، فى التأسيس لكتابة جديدة غنية بالإيحاءات والمعرفة والخبرة والتأمل، كتابة أكبر من المقال، وأوسع من القصة، كتابة مشهدية يتحرك المكتوب عنهم أمام عينيك، وتتفهم دوافعهم، أو لا تتفهم أنت حر، هذه الكتابة خرج منها: حكايات من فضل الله عثمان، وصديق قديم جدا، وغرفتان وصالة، انطباعات صغيرة حول حادث كبير (عن ثورة يناير)، لم يتنازل عن الاعتبارات الفنية التى رفعت من منزلته الأدبية، كان يرى أنه ليس مهما أن تكون المادة التى يتناولها متخيلة أو واقعية، ولكن المهم كيفية التعامل معها، ولم يكن يخطط لعمل مجموعة قصصية أو رواية، ولكنه كان مشغولا بكتابة كتاب أيا كان ما يتضمنه، فقط تكون له شخصيته المستقلة، وبالتالى وجود قادر على التأثير، وربما البقاء.
لم يكن فى ذهن العم إبراهيم كاتب القصة القصيرة الفذ أن يكون روائيا، وكتب مالك الحزين (التى صنع داود عبد السيد منها فيلم الكيت كات) لأن كتاب القصة لم يكن من حقهم الحصول على تفرغ من وزارة الثقافة، وكان الأستاذ نجيب محفوظ هو من كتب تزكية قال فيها: «أصلان فنان نابه، مؤلفاته تقطع بموهبة فريدة وفذة ومستقبل فريد، ولمثله نشأ مشروع التفرغ، وعند أمثاله يثمر ويزهر»، صاحب يوسف والرداء وعصافير النيل، والذى قرر أن يكون كاتبا بعد أن قرأ قصة موت موظف لتشيكوف، وأصر على موقفه بعد ما تعرف على أعمال همنجواى، الرجل البشوش المبهج صديق يحيى حقى المقرب المحب للحياة والكتابة والموسيقى والسينما، شاعر القصة القصيرة كما أطلق عليه بهاء طاهر، الأستاذ والصديق والمعلم والمثقف الكبير، والذى أسعدنى زمانى بالاقتراب منه منذ نزولى الى القاهرة وسافرت معه كثيرا خارج مصر وداخلها، واقتربت من الشعر الذى يجلس خلف حكاياته، الرجل الحكيم الذى ترجمت أعماله فى كل الدنيا، وكان يقول ما جدوى أن يعرفك الهولنديون والفرنسيون ولا يعرفك سكان بولاق الدكرور والوراق، أفتقد طلته الحلوة وكتاباته الملهمة .. وأتخيله وهو يحاول الكتابة عن أيامنا هذه.
لمزيد من مقالات إبراهيم داود رابط دائم: