مازالت تجربة الإخوان فى الحكم تستدعى الكثير من التأمل، فالجماعة التى تأسست فى العشرينيات من القرن الماضى وعلى مدى عمرها الزمنى، تنقلت من الدعوة والسرية وتشكيل التنظيمات المسلحة، إلى العلن والانخراط فى الحياة السياسية والعامة والمشاركة فى الانتخابات فضلا عن تغلغلها فى المجتمع من خلال النقابات وتنظيمات المجتمع المدنى، ونشاطها فى صفوف المعارضة، استقرت أخيرا على الصورة الراهنة، وهى الحزب السياسى الذى ينافس على السلطة حسب القواعد الديمقراطية، وفى كل مرحلة كانت تُبرز وجها معينا من هذه الوجوه أو بالأحرى الأقنعة، على ما عداه، إلا أن فرصتها الحقيقية للتحول من سياسة التمكين إلى الولوج للسلطة جاءت مع ما سُمى بثورات الربيع العربى، فاعتلت سدة الحكم فى أكثر من دولة، لكن وبعد مرور عقد من الزمان، بدأت التجربة برمتها فى التداعى، بعد توالى سقوطهم وزوال سلطتهم،كما حدث فى مصر والسودان وتونس وأخيرا المغرب.
والتجربة المغربية تحديدا تستحق التوقف عندها، لأن لها خصوصية يصعب تجاهلها، فهى البلد الأول فى المنطقة منذ اندلاع تلك الثورات التى شهدت صعودهم وفتحت لهم أبواب الحكم، بل واستمروا فيه على مدى عقد كامل بعد نجاحهم فى الحصول على الأغلبية البرلمانية لدورتين متتاليتين 2011 و2016 وبالتالى فوزهم برئاسة الحكومة، لذا كانوا دائما ما يفاخرون بهذه التجربة باعتبارها «نموذجا مثاليا» على نجاحهم وسط الإخفاقات التى مُنيوا بها فى تجاربهم الأخرى.
ثم أتت نتائج الانتخابات الأخيرة لتوجه لهم ضربة قاصمة بعد سنوات من الحكم المريح، إذ لم يحصدوا سوى 12 مقعدا من إجمالى 395 مقعدا، ليحتلوا بذلك المرتبة الثامنة فى قائمة الأحزاب المشاركة فى العملية الانتخابية، فيعودوا إلى المربع الأول، وليتصدر المشهد حزب التجمع الوطنى للأحرار الذى حاز على المركز الأول (97 مقعدا) وهو حزب على نقيض من الفكر الإخوانى والأيديولوجيات الجامدة، ويتكون من رجال أعمال وعناصر من التكنوقراط وشرائح مختلفة من الطبقة الوسطى، ويتزعمه رجل الأعمال عزيز أخنوش الذى كُلف بتشكيل الحكومة، وهو ما فاقم من هزيمة حزب «العدالة والتنمية» الذراع الحزبية لجماعة التوحيد والاصلاح، وهى فرع جماعة الإخوان فى المغرب، فى وضع شبيه بالتجربة التونسية مع حزب النهضة المنبثق عن الحركة التى تحمل نفس الاسم، وفى الحالتين كان الادعاء بفصل «الدعوي» عن «السياسي» ضمانا لعدم الخلط بين الدين والسياسة، وكأنه وضع فريد يضعهما فى مكانة متميزة عن باقى أفرع الجماعة إلى أن ثبُت العكس على أرض الواقع، وأنه لا فروقات بين الجميع ممن ينتمون للجماعة الأم وتنظيمها العالمى، فالفرع يبقى لصيقا بالأصل مهما تجمل.
والواقع أن الحديث هنا لا ينصب على مجرد حالة أو أكثر رغم الدلالات العميقة التى تحملها كل منها، وإنما على مجمل المشروع السياسى لأقدم وأول جماعة دينية فى تاريخ الشرق الأوسط الحديث رفعت شعار استعادة الخلافة بعد سقوطها فى تركيا عقب انهيار الامبراطورية العثمانية، وقامت بتكفير المجتمعات وحكمت عليها بالجاهلية وروجت لمبدأ الحاكمية لله لتبرر به نزعتها التوسعية لبسط نفوذها فى أرجاء العالم العربى والإسلامى والاستحواذ على السلطة.
أ سباب فشل الإخوان المتكرر فى كل التجارب التى خاضوها للحكم عديدة ولكنها ولا شك تحمل قواسم مشتركة وإن تباينت بعض التفاصيل، كونها تتعلق بجماعة واحدة أو تنظيم واحد مع تعدد امتداداته وأفرعه، ويمكن إجمال أهمها فى الآتى:
أولا: المكون الأيديولوجى الجامد الذى لا يستجيب لعامل التغيير والتطور والذى يعترى المجتمعات فى كل زمان ومكان بحكم الطبيعة البشرية، ودائما ما يكون التطوير فيه فقط على مستوى الخطاب السياسى الذى يلجأون إليه وفق مقتضيات الحاجة والظروف الآنية، ومن ثم لا يمس الجوهر والمضمون الذى يظل ثابتا.
ثانيا: محاولتهم الدؤوبة للقفز على مفهوم الدولة الوطنية وتجاوز مؤسساتها، أو بمعنى آخر سعيهم لابتلاع الدولة وإخضاعها للجماعة من خلال الاعتماد على مكتب الإرشاد صاحب القرار الفعلى كبديل لها، وهنا تحدث الازدواجية، وهو وضع لا يختلف كثيرا عن نظام «ولاية الفقيه» فى إيران حيث السلطة المطلقة للمرشد الأعلى وليس الرئيس أو المؤسسات الرسمية والبرلمان، وللحرس الثورى والميليشيات المسلحة عوضا عن الجيش النظامى، الفارق الوحيد بين الحالتين يقتصر على انتماء كل منهما لفقه مختلف أحدهما سنى والأخر شيعى، لذا فالنظام السياسى الذى ينشئونه لا يستقيم مع أدنى مبادئ الديمقراطية التى يوظفونها للوصول إلى سدة الحكم.
ثالثا: ضعف القدرة على الإدارة، وهو ما يعكسه تدنى مستويات الأداء فى الملفات الاقتصادية والاجتماعية، التى تشمل التعليم والصحة والأسعار والبطالة والخدمات العامة، إضافة إلى ملف الحريات العامة والفردية بسبب فكرهم المنغلق وعدم القبول الحقيقى بالتعددية فى الانتماءات للتيارات الفكرية المخالفة لهم، وهذه كلها معايير الحكم فى الأنظمة الحديثة، لذك فقد يجيئون وفقا لصناديق الاقتراع ولكنهم يذهبون أيضا من خلالها كما حدث فى المغرب وهى تجربتهم الأطول، فالمواطن أو الناخب لا يحكم على أى سلطة أو حزب إلا بما يقدمه من إنجازات بغض النظر عن أى شعارات رنانة.
رابعا: الانشغال الدائم بتثبيت أركان الجماعة، حتى بعد اعتلاء السلطة، على حساب عملية الاصلاح التى تحتاجها معظم أو كل شعوب المنطقة، ولتحقيق هذا الغرض تصبح مسألة الولاء فوق كل اعتبار، وتضيق دائرة الاختيار للقيادات والكوادر استنادا إلى الكفاءة والمهارة والقدرات، وبالتالى تنتهج سياسة الاقصاء لمن هم خارجها، فالجماعة تأتى أولا وأخيرا.
خامسا: الاستمرار فى الاعتماد على الخطاب الحماسى الذى تخلط فيه الدين بالسياسة لحشد الجماهير، وهو أمر قد تستفيد منه كقوة معارضة تسعى لتقديم نفسها كبديل جاهز للأنظمة القديمة، ولكنه لا يُجدى كأسلوب للحكم، فضلا عن أنه فقد زخمه بعد عقود من استهلاكه سياسيا.
هذه بعض من ملامح قصة صعود وهبوط جماعة الاخوان فى تجربة الحكم خصوصا، ولا يبدو أنها ستتغير فى المستقبل القريب وربما البعيد أيضا، مثلما لا تعنى أنها ستتلاشى، بل الأرجح بالطبع أنها ستعمل بشكل حثيث على استعادة قواها، فالتنظيم باق، لم تُكتب نهايته بعد، لكن الذى انتهى هو عصرها الذهبى الذى تصدرت فيه المشهد السياسى على مدار العقود الماضية وتوهمت أنها علت على كل القوى السياسية الأخرى، واستخدمت فيه الدين لتحقيق مكاسب ومصالح خاصة.
لمزيد من مقالات د. هالة مصطفى رابط دائم: