من جيش الشهيد محمد عبيد، وخطاب مصر للمصريين، انطلق المشهد السياسى الجديد فى بلادنا، حول الفكرة القومية المصرية، ومصر للمصريين، التمايز بين مصر، ككيان سياسى، ومشاعر قومية، بعيدا عن الخلافة العثمانية ومسار آخر عن الأسرة العلوية، كان استشهاد محمد عبيد، ودوره البارز فى الحركة العرابية، تعبيرا عن تمثل نبض نبهاء المصريين للنظرة القومية التى تعمدت فى بداياتها يوم الشهيد وصحبه، ثلاثة آلاف شهيد فى التل الكبير دفاعا عن الوطن، تطورت الفكرة القومية المصرية مع الحركة الوطنية الدستورية عام 1919، ومن نتائجها دخول بعض من أبناء الشعب المصرى إلى الجيش كضباط من الفئات الوسطى، والصفوة عام 1936، ومن ثم سرت الروح القومية وسط الضباط الشباب، ومن بينهم الزعيم الوطنى البارز جمال عبد الناصر وآخرون، من هنا ارتبطت تاريخيا الحركة القومية الدستورية بالجيش الوطنى المصرى، شكلت معالم التكوين السياسى لهذه المجموعة من الضباط التيارات السياسية للمرحلة شبه الليبرالية، ومن ثم ثقافتهم السياسية، من هنا كانت العروة الوثقى بين الجيش والشعب المصرى، ومن خلالها قام تنظيم الضباط الأحرار، وبروز قيادات وطنية بارزة على رأسها اللواء محمد نجيب، والبكباشى جمال عبد الناصر وآخرون، وكلها كانت لديها من التكوين والثقافة والخبرة السياسية أكثر من زملائهم الآخرين، من قلب الجيش المصرى، وبعيدا عن صراعات الضباط الأحرار توطدت العروة الوثقى وفق صديقنا وأستاذنا الجليل أنور عبد الملك ـ وتأكدت مع مشروع ناصر التحررى، والاستقلالى، والاجتماعى الذى تأسس على العدالة الاجتماعية، والسياسات العامة التى كرستها فى التعليم، وتوسيع نطاقه الاجتماعى، والصحة، والتأمينات الاجتماعية، والحق فى العمل والثقافة لكل المصريين، وهو ما وطد الصلة بين جيش الأمة المصرية ذات الوجه العروبى، وشعب مصر.
بعيدا عن السياسة، وقمع الحريات العامة، كانت الكتلة الاجتماعية الغالبة تؤيد الناصرية، إلا أن ذلك انكسر مع هزيمة يونيو 1967، ومعها بدأ تمرد بعض من جيل الستينيات على النظام، وبعدها جيل السبعينيات من أبناء يوليو، الذين اعلنوا راية العصيان سياسيا وايديولوجيا، مع نحو ما ظهر فى تظاهرات يناير 972/1977زائعة الصيت، كانت الهزيمة ساحقة، ومؤلمة لجيلنا السبعينى، من هنا كان خطابها الرئيسى الربط بين تحرير الأراضى العربية، والمصرية المحتلة، وبين رفع نسبة الضرائب على الفئات الثرية، والانضباط العام فى الدولة والمجتمع ومواجهة فساد البيروقراطية فى القطاع العام.
فى أعقاب هزيمة يونيو، بدأت الجدية والانضباط فى اعادة بناء القوات المسلحة، تدريبا وأسلحة، وخطط قتال وتفكيرا استراتيجيا قام به القائد العسكرى الوطنى الفريق أول محمد فوزى، وصحبه من القادة الآخرين، وكان من نتائجه دخول جندى المؤهلات العليا، الذى أحدث نقلة استراتيجية من حيث القدرة على استيعاب الأسلحة الحديثة، والروح الوطنية الوثابة، والرغبة فى الاستشهاد من أجل تحرير الأراضى المحتلة، الأهم أن الجيش تحول إلى خلية خلاقة من التفاعل بين الجنود والضباط، والاندماج الوطنى بين فئات اجتماعية مختلفة.
كانت فوائض الحركة القومية، ومفهوم الأمة المصرية، ذات الوجه العروبى، مؤثرة على الروح الوطنية المتقدة للجيش والشعب.
فى ملحمة الاستنزاف برزت بطولات الضباط والجنود، وعلى رأسهم العقيد إبراهيم الرفاعى، وصحبه، وآخرون فى الدفاع الجوى، من هؤلاء جندى فى منطقة على أطراف بحيرة المنزلة، واغارت الطائرات الإسرائيلية الفانتوم على أحد مواقع مدفعيتنا، وأدت إلى تحطيم الموقع، والنيران تشتعل فى داخله، وعند عودة احدى الطائرات المغيرة، أخذت طلقات احد المواقع تدوى، واسقطت الطائرة الفانتوم، وعندما ذهب الطبيب أحمد حجى ومعه بعض الجنود لنقل الجرحى، كان الجميع استشهد إلا جنديا برتبة رقيب تطايرت يداه، وقدماه قابضتان على المدفع الذى اسقط الطائرة، وعندما حاولوا نقله، قال انقلوا زملائى اولا، أنا أموت، واستشهد هذا البطل الوطنى العظيم لا يعرف له دينا، أو اسما إلا فيما بعد، قاتل من أجل مصر، وفى سبيل كرامتها وعزتها، جندى من جنود الأمة المصرية، وعلامة على كبريائها وشرفها.
كانت حرب الاستنزاف الوطنية الكبرى، علامة على الجيش الجديد، وقادة جدد، وعروة وثقى بين الجيش والأمة.
وكانت حرب أكتوبر 1973 تعبيرا عن هذه الروح الجديدة، التعبئة الاقتصادية، ودور القطاع العام الوطنى، وجندى المؤهلات العليا ـ وفق صديقى واستاذى لطفى الخولى وأيضا الضابط المؤهل عسكريا وقتاليا، والتخطيط
الاستراتيجى، ووراءه المشير أحمد اسماعيل، والفريق سعد الدين الشاذلى، والفريق أول عبدالغنى الجمسى المخطط العسكرى اللامع، والمقاتل الكبير، والمشير محمد على فهمى قائد الدفاع الجوى، وآخرون كالمشير محمد عبدالحليم أبو غزالة، والمشير محمد حسين طنطاوى، واللواء باقى صدقى وآخرون عظام، ووراءهم ضباط بواسل، وجنود جيش مصر الشجعان، قاتلوا ووراء غالبهم قصص من الوطنية، والشجاعة لايزال بعضها مجهولاً، كانت الحرب محاولة جادة، وصارمة من أجل التحرير، والكرامة، الكبرياء الوطنية، بقطع النظر عن سلبيات الادارة السياسية لنتائجها.
شخصيا، كان لى شرف مقابلة الفريق أول محمد فوزى وتحدثنا معاً فى مكتب الاستاذ الصديق فيليب جلاب، ذات مرة فى عهد مبارك، ثم شرفت بتعقيبه على بحث لى قدم من اتحاد المحامين عن «العالم العربي» بين قبعة كمال أتاتورك، وعمامة سليم الأول، وآيات الله وكان معه صديقى الأستاذ مكرم محمد أحمد، وأكاديمى فلسطينى مقيم بالقاهرة.
ومن دواعى شرفى الخاص، تعرفى على أستاذنا الفريق أول محمد عبدالغنى الجمسى، لحل مشكلة مع بعض الزملاء، حول مذكراته واتصلوا به لحلها، ورفض ورفع قضية ضدهم، وتحدثت معه تليفونيا ووافق على مقابلتى معهم، وكان مستمعاً ذكيا، ولايتحدث كثيرا وبعد حديثى معه، وافق على سحب القضية، وكان حديثنا مع أب وطنى عظيم، رحيم رغم صرامته، وبعدها تقابلنا فى الإسكندرية فى ندوة لمركز الدراسات وجلسنا معا، ثم جاء صديق لنا مفكر مغربى عمل سفيراً للمغرب فى القاهرة، وكان الحديث شيقا عن الحرب، وكيفية مواجهة إسرائيل!
كانت إرادة القتال بالفكر العسكرى المتطور، والتدريب الشاق، وفتح الأبواب أمام الجميع، كى يقدموا أفكارهم الجديدة، والذكية ومن بينها استخدام اللغة النوبية فى الشفرة ونجحت.
كانت حرب أكتوبر 1973 تعبيرا عن معمل خلاق لتفاعلات الجنود والضباط، والقادة، ومن ثم كانت تعبيرا عن روح الاندماج القومى المصرى من جميع القوى الاجتماعية، من جنود المؤهلات العليا، والعاديين من العمال والفلاحين، والضباط، كانت الحرب ذروة القومية المصرية ذات الوجه العروبى، والأمة المصرية الواحدة الموحدة، والاندماج التاريخى بين الجيش والأمة.
كان الانتماء الوطنى المصرى فى أشمخ ذراه وكان شباب الحركة الطلابية، فى كتائب خدمة الجبهة التى انضممنا إليها وراء جيش شعب مصر، وبدأت الحرب، ومعها الفوائض التاريخية للقومية المصرية، داعمة للجنود والضباط البواسل، وهم يعبرون من الهزيمة وفوائضها الدامية فى قلب جيلنا، إلى آفاق أخرى مختلفة.. كانت الحرب تعبيراً عن نشيد مدرسى لنا فى الابتدائى، نجم مصر ارتفع حول جيش الوطن!
لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح رابط دائم: