ما زالت حرب أكتوبر 1973 منجم الأسرار العسكرية والبطولات والتضحيات لأبطال لا نعرف عنهم شيئا سوى أنهم قدموا أرواحهم ليعيدوا لنا الأرض، ويكونوا جيلا ملهما للأجيال المقبلة فى تعريف كلمة «وطن».. إلهاما جسدته السينما المصرية من واقع الجبهة قبل الحرب متناولة بشائر النصر وبطولاته، برصدها الواقع المصرى فى فترة ما بعد نكسة 1967، وخلال حرب الاستنزاف، باعتبار أن المرحلتين مفتاحا نصر أكتوبر.
حائط البطولات
«مئات الطلعات، آلاف الدانات، كثير من القتلي، إيش مالهم المصريين.. لا بيكلوا ولا بيتعبوا؟!».. جملة قالها أحد قادة جيش الاحتلال الإسرائيلى فى فيلم «حائط البطولات» من إخراج محمد راضي، وشاركه فى كتابة السيناريو ومراجعة المادة العسكرية، المشير محمد على فهمي، وإبراهيم رشاد، ومصطفى بدر.
تكشف الجملة مدى انزعاج القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، من إصرار مصر على تجاوز النكسة، وإعادة بناء الجيش، وترتيب البيت من الداخل، خاصة مع مرحلة بنائها لحائط الصواريخ، ومنظومة الدفاع الجوى التى دارت الأحداث حولها، لنجد أنفسنا أمام تجسيد حى لفترة مهمة عسكريا واجتماعيا فى التاريخ المصري.
ففى مصر كان الشعب يقف بجوار الدولة، وبدأ يشعر بنسائم الانتصار والقوة مع نجاح المعارك والعمليات التى نفذها الجيش فى حرب الاستنزاف، إذ تركت أثرها على القوات برفع الروح المعنوية لها، بعد الأخذ بالثأر وتكبيد العدو خسائر فادحة أكدتها جملة موشى ديان، وزير الحرب الإسرائيلى وقتها ـ كما صوره الفيلم -: «شعبنا تأثر بخسائر فادحة جراء القصف المصرى على مواقعنا شرق قناة السويس.. لابد من منع مصر من بدء حرب شاملة».
ويضيف: «سأجعل المصريين يرقصون فوق النار»، لتنتقل الكاميرا إلى ضابط آخر فى الاجتماع منبها ديان قائلا: «المصريون يحللون كما نحلل، وسيبدأون فى بناء الكثير من قواعد الصواريخ، وهذا خطر كبير علينا»؛ ليكون الفيلم قد صور أهم مراحل حرب الاستنزاف، وهى بناء منظومة الدفاع الجوي.
أبناء الصمت
لم يغفل المخرج محمد راضى تصوير الفترة ما بين النكسة وحرب الاستنزاف، ورصد الحالة النفسية للجنود، فكان فيلم «أبناء الصمت»، برصده لواقع جنود إحدى السرايا الموجودة على شاطئ القناة بمدينة السويس، بداية من تنوع بيئاتهم الاجتماعية، وخلفياتهم الثقافية، والمستوى التعليمى والثقافى المتباين بينهم، لكن ما جمع بينهم جميعا من ناحية المكان هو الخندق الذى يعيشون فيه، وتدور غالبية أحداث الفيلم بداخله، ومن الناحية الفكرية جمعتهم فكرة الثأر، وتكبيد العدو خسائر، وتحقيق النصر.
فمن خلالهم ينقلنا الفيلم إلى الواقع الاجتماعى لمصر فى تلك الفترة، بتصوير طبيعة الحياة المدنية لكل جندى منهم، ومنها يدخل إلى الحياة الاجتماعية للمحيطين به، كما فى حالة الجندى مجدى وخطيبته نبيلة التى تعمل صحفية، والبوابة التى دخل منها الفيلم لرصد حال الشارع المصرى بفئاته وشرائحه الاجتماعية المختلفة، التى ظهرت فى مشاهد عملها لتحقيق صحفى عن مصر ليلا.
أغنية على الممر
إذا كان راضى رصد الحياة الاجتماعية فى أثناء حرب الاستنزاف فإن فيلم «أغنية على الممر»، للمخرج على عبد الخالق، رصد المجتمع المصري، قبل النكسة من خلال أفراد سرية مشاة كلفوا بتأمين أحد الممرات فى سيناء، ومع حدوث النكسة وشراسة هجوم العدو بين الحين والأخر، أخذ كل منهم يحكى حياته وأحلامه وطموحاته قبل الالتحاق بالجيش، ليجسد
عبد الخالق حال الجنود الشباب وقتها: مزيجا من الشجن والحلم مع حب الوطن، وبسالة القتال.
أكد هذه الرؤية عدم انصياع الشاويش محمد وأحد جنوده، وهما الوحيدان على قيد الحياة بعد استشهاد جميع أفراد السرية، للأوامر العسكرية بالرجوع، ليكون الدفاع عن الممر مهمتهما لآخر لحظة فى عمرهما.
فترة اتسمت بطبيعة شديدة الحساسية فى تاريخ مصر، وجسدتها السينما بصورة مزجت بين الواقع العسكرى والاجتماعى لتكشف الجوانب النفسية والإنسانية للجندى المصري، علاوة على قوة تلاحم الشعب من خلال فئاته وشرائحه مع الجيش لتحقيق هدف واحد هو النصر، كأن حال السينما المصرية فى أفلام النكسة والاستنزاف يقول: "كل فرد جندى بموقعه، فالجندى ليس على الجبهة فقط".
فنبيلة الصحفية فى فيلم «أبناء الصمت» جندي، وعامل القمامة الذى ينظف الشارع ليلا فى فيلم «أغنية على الممر»، ومعه عمال إصلاح الطريق جنود، والمهندس المدنى الذى يشارك فى بناء حائط الصواريخ بفيلم «حائط البطولات» جندي؛ لتكون أفلام هذه المرحلة للسينما المصرية بمثابة «ديكيودراما»، لأنها وثقت لها من خلال الفيلم الروائى الطويل.
أكتوبر بعيون إسرائيلية
فى سياق متصل، يؤكد الفيلم الوثائقى «حرب أكتوبر73 بعيون إسرائيلية» ـ الذى أنتجته وزارة الدفاع المصرية ـ مصداقية الرؤية الدرامية للأفلام السابقة، بأن ما قدمته من روح معنوية لم تعرف اليأس والانكسار وسعيها للنصر والعزة؛ لم يكن نابعا من خيال مبدع يعيش الواقع فقط، لكنه إيمان بالشخصية المصرية، ومكوناتها الثقافية والفكرية.
فالفيلم يعرض تصريحات قادة جيش الاحتلال الإسرائيلى التى يروون من خلالها معايشتهم لحرب أكتوبر 1973، وما فعله الجيش المصرى بهم.. فيقول ديفيد أليعازر، رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي: «لقد وقعنا فى مصيدة خطة دفاعية مصرية ذكية، ونحن بمنتهى السذاجة.. ابتلعنا الطعم الأول فى خطة الخداع»! أما أرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق، وقائد الفرقة 142 فيقول: «بعد 24 ساعة اتجهنا جنوبا عبر الصحراء، وكانت هناك حالة من الفوضي.. نظر لى أحد الضباط الصغار بذهول، وقال: إن هذا أمر لا يصدق.. إننا لا نستطيع إيقافهم» .. ويضيف: «لقد فقدنا 300 قتلوا وألف أصيبوا، وكلنا من الجنود إلى قائد الفرقة أمضينا ليلة من أسوأ الليالى فى حياتنا».
ويكشف الفيلم بعرض تصريحات موشى ديان، وزير الحرب الإسرائيلى، كيف أن حرب أكتوبر لم تكن نصرا عسكريا فقط، لكنها أثرت على المجتمع الاسرائيلى وهزمته نفسيا فيقول: «وجدت مشهدا لا يمكن أن أنساه، بل لم أره فى حياتى من قبل حتى فى أفلام السينما، فها هى آثار المذبحة التى حدثت، وما زالت آثار الدخان تتصاعد من بقاياها؛ كدليل على المعركة الرهيبة التى دارت رحاها فى هذا المكان». يصف ديان بهذه الكلمات ـ كما جاء فى الفيلم ــ وقائع «المعركة الصينية» التى أشار بشكل صريح إلى أنها جعلت ضباط وجنود الصف الثالث بلواء «أمنون» يتولون القيادة، فى إشارة منه إلى مقتل الصفين الأول والثاني.
من الناحية الاجتماعية يقول ديان موجها الكلام لذوى القتلي: «إنها حرب صعبة للغاية، قوية ومدمرة لقواتنا البرية والجوية، حرب ثقيلة بأيامها ودمائها، ونحن الآن فى خضم المعركة، نعجز تماما عن التعبير عن مدى حزننا».
هكذا أكدت السينما التسجيلية ـ بتصريحات قادة جيش الاحتلال الإسرائيلى فى حرب أكتوبر 1973 ـ نصر مصر، فضلا عما قدمته السينما الروائية الطويلة ـ التى سبقتها بسنوات ـ إذ لم لم يكتبها صناع الأفلام من خيال مبدع، بل من روح وطنية، وتركيبة شخصية فريدة، هى الشخصية المصرية التى صاغها خيال مبدع يستلهم وطنيته.
رابط دائم: