المتعاطفون مع حركة طالبان يرون فيها نموذجا للتنظيم الثورى التحررى الذى صمد وقاتل وضحى حتى انتصر. فى المقابل ينظر إليها آخرون باعتبارها تنظيما رجعيا متشددا ومنغلقا يتبنى رؤية متحجرة للإسلام تأخذ بالشكل وتجهل الجوهر. لكل طرف الحق فى الاعتقاد بما يشاء، ولا ننوى إصدار حكم على طالبان بإدانتها أو منحها صك البراءة. ما يعنينا هو التوقف أمام ما تطلقه آلة الدعاية الأمريكية الجبارة من أنباء صحيحة وكاذبة، وتحذيرات صريحة ومبطنة، هدفها الوحيد إثارة فزع العالم مما يمكن أن تفعله طالبان بأفغانستان.
تروج أمريكا أن طالبان، بظلاميتها وجهلها، ستعيد البلاد إلى العصور الوسطى، وكأنها حولتها إلى سويسرا الشرق وجعلت منها واحة للديمقراطية ومنارة للإشعاع الحضارى والفكرى. تتباكى على حقوق المرأة التى ستهدرها طالبان وتنسى أن المستفيدات من الاحتلال قلة محدودة من نساء العاصمة أتيح لهن الانخراط فى العمل العام، بينما غالبية النساء ظللن على حالهن من الفقر وانعدام الرعاية الصحية وسوء التغذية.
لم تصنع أمريكا شيئا طيبا لأفغانستان، لم تخرجها من الظلمات إلى النور، ولم تنتشلها من براثن الفقر والمرض والفوضى وتجارة المخدرات التى ازدهرت على نحو غير مسبوق خلال سنوات الاحتلال وفقا لما يؤكده تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية. فى أفضل الأحوال تركتها كيوم احتلتها، لكن أضافت مزيدا من القبور لأكثر من مائة ألف قتيل جديد. ليس هذا رأيا شخصيا متحاملا لكنها السطور الختامية لدراسة لأستاذ بجامعة إنديانا الأمريكية بعنوان «الحياة الأفغانية أسوأ تحت الحكم الأمريكي».
لمن ينوى تصديق الدعاية الأمريكية بإدانة طالبان مقدما لما تنوى أن تفعله عليه التوقف أولا أمام السؤال التالي: ماذا استفادت أفغانستان من أمريكا، وماذا ستخسر تحت حكم طالبان؟. دراسة إنديانا وغيرها ترصد قائمة طويلة من الإخفاقات والأزمات خلقها الاحتلال، وتحمله مسئولية تردى أوضاع البلاد.
لذلك لماذا نفترض صحة ما تقوله أمريكا من أن الآلاف الذين ازدحم بهم مطار كابول كانوا يفرون من حكم طالبان؟ لماذا لا نقول إن غالبيتهم مجرد فقراء يهربون من أزماتهم ومشاكلهم ويحلمون بحياة أفضل لم توفرها لهم أمريكا ولا نظامها العميل فى كابول. الملايين فى العالم الثالث يسعون للهجرة لنفس السبب دون أن تكون فى بلادهم طالبان.
نقطة الضوء الوحيدة التى تحسب لأمريكا هى تشجيعها لتعليم الفتيات ومن ثم إتاحة فرص عمل للمرأة، غير أن ذلك ظل قاصرا على العاصمة وبعض المدن الكبرى. تحاول أمريكا اختزال أزمة أفغانستان فى قضية المرأة وبرقعها الذى ستعيد طالبان فرضه متجاهلة الأزمات المصيرية التى ساهمت فى تفاقمها وفى مقدمتها الفقر ووجود أكثر من 5ملايين مشرد. ثم «أم المشاكل» أى الفساد الذى استشرى فى كل المؤسسات بما فيه الجيش والشرطة والقضاء والحكومة. أصبح لكل منصب تسعيرة تختلف بحسب قيمة الرشوة التى تدفع عادة لشاغله. وعلى سبيل المثال بلغ سعر منصب قائد شرطة المقاطعة مائة ألف دولار نظرا لقدرته على تسهيل تجارة المخدرات.
تحولت الشرطة إلى عصابة للابتزاز وليس للقمع فقط. ولم يكن الجيش بعيدا عن الوباء. اسند السياسيون المناصب القيادية لأقاربهم من معدومى الكفاءة والشرف وهؤلاء استولوا على الميزانيات وباعوا الذخائر والأسلحة، واقترف الجنود الفقراء نفس الإثم. وكان طبيعيا أن تنتهى المعدات الأمريكية فى أيدى طالبان التى بدأ الشعب يحن إلى أيام الاستقرار والأمن فى ظل حكمها. حتى محاكمها التى تحذر أمريكا من وحشية أحكامها وعودتها إلى بتر الأطراف والإعدام كانت أفضل من محاكم حكومة كابول التى اعتاد قضاتها إصدار أحكامهم لمصلحة من يدفع أكثر.
نتيجة لذلك كله أصبحت أفغانستان أكثر ترحيبا بعودة طالبان وهى حقيقة يعترف بها تقرير لمكتب المفتش الأمريكى العام المختص بإعادة الأعمار الذى يؤكد أن أمريكا لم تحاول قط تفكيك شبكة الفساد. يرصد التقرير وهو بعنوان «الدروس المستفادة» احد أهم تجليات الفساد وهو ما عرف باسم الجنود الأشباح وهى قوائم أسماء وهمية لجنود يقدمها القادة الفاسدون لصرف مرتباتهم.
الغريب كما تقول مجلة ايكونوميست البريطانية الرصينة أن نفس المشكلة حدثت فى ظل الاحتلال الأمريكى لفيتنام ثم العراق. وفى تقرير بعنوان «لماذا تواصل أمريكا بناء دول عميلة فاسدة» حاولت المجلة الإجابة على السؤال المحير وهو لماذا ترعى أمريكا الفساد إلى هذا الحد؟ ومادمت مشكلة الجنود الأشباح قد حدثت فى فيتنام فلما سمحت بتكرارها فى العراق ثم أفغانستان؟. توضح المجلة أن مكمن الأزمة هو نظام الحكم الفاسد الذى أقامته أمريكا وهو ليس منتخبا بل جاء بالتزوير والرشوة.
تقدم دراسة أخرى لمعهد بروكنجز الأمريكى تفسيرا مختلفا لفشل أمريكا هو إنها لم تفهم أفغانستان، ولم تفهم طبيعة مجتمعها القبلى المحافظ. تصورت أن الحسم العسكرى يكفى لإنهاء كل المشاكل.
وتطرح ايكونوميست رؤية مهمة تتجاوز التفاصيل وصولا إلى فهم أكثر عمقا لمشكلة الفساد خلاصتها أن الكثير من الباحثين حاليا يرى أن الفساد أصبح احد أشكال الحكم فى بعض المجتمعات التى تمر بمرحلة ما قبل الدولة العصرية. أو بتعبير المفكر الأمريكى الشهير فرانسيس فوكوياما «الحكومات ذات الصبغة الشخصية» أى ذلك النمط من الحكم الذى تتداخل فيه علاقات القرابة والمصاهرة والمصالح المتبادلة بين السلطة ونخبة فى المجتمع وهى التى تدير الدولة فعليا وليست المؤسسات المعنية.
مثل هذه النظم يمكن أن تظل قائمة ومستمرة فى الأحول العادية لكنها وبسبب افتقادها للتماسك ونظرا لانعدام التأييد الشعبى لها لا يمكنها الصمود أمام تمرد تحركه دوافع أيدلوجية مثلما كان الحال مع المقاتلين الشيوعيين فى فيتنام أو طالبان بتوجهها الإسلامى الجهادى.
المعنى الذى تؤكده المجلة هو أنه لا سبيل لهزيمة خصم عنيد طالما فشلت السلطة فى تقديم نفسها كبديل ناجح وعادل ونزيه. وهو ما يفسر لماذا انتصرت طالبان وسقط النظام الكارتونى الذى صنعته أمريكا.
لمزيد من مقالات عاصم عبدالخالق رابط دائم: