يقول الشاعر سيد حجاب: «وينفلت من بين أيدينا الزمان، كما يتفرفط النور والحنان والأمان، الشر شرق وغرب داخل فى حوشنا، حوشوا لا ريح شاردة تقشقش عشوشنا، حوشوا شرارة تطيش تشقق عروشنا، وتغشنا المرايات تشوش وشوشنا... وينفلت من بين أيدينا الزمان».
هذا وصف دقيق لما حدث فى أزمنة الأسرة من الحادية والعشرين حتى السادسة والعشرين فقد ضاعت العروش، وتشوهت الوشوش، والشر عبر إلى بلادنا من شرق وغرب، وانعدم الأمان، واختلطت الشعوب فى أراضينا تحكم وتتحكم فى مصائر المصريين. أزمنة غريبة عبرت على أوطاننا كانت نتيجة تهاون الملوك وضياع الجيوش والاستهانة بالشر الذى سكن فى مرحلة الضعف، ثم صار الشر قانونا للحياة. فقد كانت مصر فى هذه الفترة مثل محارب عظيم حقق بطولات كبيرة ولكن مرض وسقط فى الميدان فخرج من الجحور كل الخائفين منه والطامعين فيه وانهالوا عليه بالخناجر والحراب، ولكنه جُرح ولم يمت. ومن الأسرة الحادية والعشرين إلى الخامسة والعشرين يسمى عصر الانتقال الثالث. فقد حكم مصر الليبيون والكوشيون لمدة ثلاثمائة عام قضوا على كل صور الحضارة والاستقرار والقوة فى مصر؛ حتى طمع فى مصر الأشوريون وانتهكوا سيادة مصر ودمروا مدنا وقرى وفرضوا جزية على ملوك مصر الأجانب.
وبالرغم من أن الملك لم يكن مصرياً ولكنه أراد أن يكون مصريا فكان الملك يأخذ لقب فرعون، ويلبس ملابس المصريين، ويمارس العبادة المصرية، بل ويكتب انتصاراته على جدران المعابد المصرية مثلما فعل شيشنق الليبى الذى حين انتصر على اليهود سجل هذا على واجهة معبد الكرنك التى صارت تسمى بوابة بوباسطة عاصمتهم فى مصر، وعلى الأقواس التسعة فى طيبة التى شيدها ملوك مصر العظام؛ حتى إنه كتب على قاعدة الملك زوسر عن أمون: ابنى المحبوب شيشنق الجبار فى قوته لقد أخضعت البلاد. هذا بالرغم من أن جيشه كان خليطا من أمم كثيرة كما ذُكر فى سفر أخبار الأيام الثانى (12: 3): صعد شيشنق ملك مصر بألف ومئتى مركبة وستين ألف فارس... لوبيين وسكيين وكوشيين.
وتوفى شيشنق عام 920ق.م وتولى ابنه أوسركون الأول بعده، وقد حاول أن يكسب رضا كهنة أمون فتبرع إلى معابد مصر بمقدار 480 ألف رطل من الفضة، و93 ألف رطل من الذهب، وعين ابنه مرى أمون رئيسا لكهنة أمون ورئيساً للجيش. ونقش اسمه على جدران معبد بناه رمسيس الثالث فى تل بسطة وبنى أجزاء أخرى فيه. وأقام معبدا لأمون فى بلدة تسمى الحيبة على النيل مقابل بلدة الفشن الآن. وأقام حصنا كبيرا عند مدخل الفيوم. ويحتفظ متحف اللوفر بلوحة تقص إهداء حقل وبيت قدمه أوسركون إلى أحد المنشدين فى معبد الإله حتحور. وبعد موته تنازع أبناؤه على الحكم فحكم شيشنق الثانى لمدة سنتين (887-885ق.م). وبعده جاء ابنه تاكيلوت الأول وحكم مشاركة مع أخيه رئيس كهنة طيبة.
وبعد ست سنوات مات تاكيلوت الأول وحكم ابنه أوسركون الثانى (872-837ق.م)، وقد اغتصب كثيرا من آثار الملوك العظام المصريين ونقش اسمه عليها.
وفى عصره هاجم زارح ملك إثيوبيا مملكة يهوذا بجيش من مليون جندى فى عهد آسا ملك يهوذا ولكنه هزم عام 835ق.م. وكُتب هذا فى سفر أخبار الأيام الثانى (14: 8-14). فبدأ تحالف بين ملوك هذه الأسرة وبين ملوك يهوذا وإسرائيل فى صد التهديد المتواصل من القوة العظمى الجديدة فى المنطقة وهى آشور. فقد أرسل تاكيلوت الثانى حفيد أوسركون الثانى ألف مقاتل إلى إِسرائيل لمساعدتها فى صد هجوم آشور بالرغم من أن مصر كانت تعانى الانقسام، فقد حكم مصر الوسطى وطيبة فى آخر حكم جده الذى صار يحكم الوجه البحرى فقط، وبذلك صار يحكم مصر أسرتان الثانية والعشرون فى بحري, والثالثة والعشرون فى طيبة ومصر السفلى. ولكن حدث تمرد من بيدوباست فى السنة الحادية عشرة من حكم تاكيلوت الثانى وحدثت حرب أهلية لمدة خمسة وعشرين عاماً، وأعلن بيدوباست نفسه ملكاً على طيبة.
وفى عصره حدثت فيضانات فى طيبة فأصبحت كل معابدها كالمستنقعات، وقد اهتم بإعادة ترميمها، ولكن بدأ أمراء الأقاليم بإعلان الاستقلال حتى صارت البلاد مقاطعات؛ فكان فى طيبة تاكيلوت الثالث، وفى بوباسطة شيشنق الرابع وبعده الخامس (740 ق.م)، وبوبت على شرق الدلتا،وتفنخت على صان الحجر ثم ملكاً على الوجه البحرى كله.
ووسط هذه الانقسامات اقترب جنود فلاسر الثالث من حدود مصر بعد أن غزا منطقة فلسطين، ولم يكن فى مصر جيش بالمعنى الحقيقى بل حاميات للأمراء والملوك المستقلين بمقاطعات مصر. ولكن لم تدخل أشور مصر لموت الملك الأشورى فلاسر فرجع الجيش إلى بلادهم وجلس شلمناصر ابنه مكانه. وكانت مملكة النوبة وكوش قد أعلنت انفصالها بعد حكم مصر لهذه الأراضى لمدة ألف وثمانمائة عام، ولكنها وجدت الفرصة للانقضاض على مصر كى تزيد من جراحها جرحا آخر. ففى الداخل صراعات وانقسامات، وعلى بوابة الشرق آشور منتظرة الوقت المناسب للانقضاض، وفى الجنوب مملكة كوش تريد أن تأخذ دورها فى حكم مصر مثل الليبيين. ونكاد نرى عيون مصر تدمع بكبرياء على من كانوا رعية وأكلوا وشربوا من خيراتها وقد صاروا غزاة واستغلوا حالة المرض والضعف حتى يملكوها، ولكن حتى وإن مرض العظيم سيأتى يوم ويقوم ويطرد كل هؤلاء فهذه هى مصر أم الدنيا.
لمزيد من مقالات القمص . أنجيلوس جرجس رابط دائم: