رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

واشنطن ضد باريس

أثار إلغاء صفقة الغواصات التى اعتزمت فرنسا توريدها إلى أستراليا, واستبدالها بأخرى مع الولايات المتحدة والتى بموجبها ستزودها الأخيرة بأسطول من الغواصات المتطورة تعمل بالطاقة النووية, موجة غضب عارمة داخل الأوساط الفرنسية وصلت إلى حد التراشق اللفظى بأقصى العبارات, إذ وصفها الرئيس ماكرون ومعه وزير خارجيته بأنها طعنة فى الظهر من الحليف الأقوى, ومعاملة غير لائقة, بل ومهينة, وفقدان للمصداقية وعنوان للكذب والخداع, وهو أمر بالقطع غير مسبوق بين الحلفاء والشركاء, ينم عن أزمة ثقة وفجوة كبيرة باتت تتسع يوما بعد يوم بين واشنطن وباريس, والأخطر من ذلك هو ما أعقب هذا التطور الفجائى من إعلان الأولى التى آلت إليها الصفقة عن إنشاء حلف ثلاثى يجمعها مع كل من كانبرا ولندن, أى القوى الأنجلوساكسونية فى مقابل فرنسا اللاتينية, وكأن الانتماء إلى تلك الجهة يظل هو الأقوى والأكثر متانة ورسوخا أو المفضل دائما لدى القوة العظمى, ومن هنا انتقل الخلاف التجارى والمادى إلى خلاف سياسى أشد ضراوة وعمقا ويكتسب بعدا استراتيجيا قد يطول مداه.

فى نفس السياق قررت فرنسا على أثر هذا الاتفاق الثلاثى الذى حولها إلى شريك من الدرجة الثانية, استدعاء سفيريها لدى أمريكا وأستراليا للتشاور, فى تصعيد لافت للأزمة, بينما اتهمت بريطانيا بـالانتهازية الدائمة وأنها لا تزيد عن كونها تابعا للسياسة الأمريكية مثلما كان الحال أثناء الحرب العالمية الثانية وفى زمن الحرب الباردة, وحتى الآن بعد خروجها من الاتحاد الأوروبى, ولم تكتف بذلك وإنما راحت تؤلب دول الاتحاد ضد واشنطن لحثها على انتهاج سياسة مستقلة عنها, خاصة أنها لا تكلف نفسها عناء التنسيق أو التشاور معها فى القرارات الكبرى التى تتخذها مثل انسحابها الأخير من أفغانستان بإرادة منفردة, وهو مثال من ضمن عشرات الأمثلة الشبيهة به, كما كرر ماكرون دعوته لإقامة حلف عسكرى أوروبى بعيدا عن المظلة الأمريكية يكون بديلا للناتو الذى سبق أن اعتبره مات اكلينيكيا أو على الأقل موازيا له.

وقد لا يكون هذا السلوك مستغربا, نظرا لطبيعة علاقاتها التاريخية مع الولايات المتحدة التى يغلب عليها التوتر باستمرار سواء كان ظاهرا أو كامنا منذ العهد الديجولى الذى أعلى من نزعتها الاستقلالية وكبريائها الوطنية, فهى تبحث دائما عن التفرد والتميز وتأبى التبعية فى سلوكها وسياساتها الخارجية, أو بعبارة أخرى لا تقبل من حيث المبدأ أن تكون مجرد رقم ضمن المجموع, ولذلك كانت هى الدولة الحليفة وربما الوحيدة التى أعلنت عن رفضها للغزو الأمريكى للعراق 2003 وقت حكم جاك شيراك وامتنعت عن المشاركة معها فى الحرب, ومن ثم يتم توصيف هذا التحالف بـالتحالف البارد.

لكن تبقى المعضلة فى عدم قدرتها على إقناع شركائها الأوروبيين بموقفها, فمعظم بلدان الاتحاد الأوروبى لا تشاركها ذات الرؤى, وفى مقدمتها ألمانيا التى تلعب الآن الدور المحورى فيه بعد انسحاب المملكة المتحدة منه, وهو ما ينطبق أيضا على أعضاء حلف الناتو, وليس من المنتظر أن تتخلى تلك الدول عن القيادة الأمريكية, ولا أن تسلك سلوكا مناهضا لها على مستوى السياسة الخارجية, بل قد يكون العكس هو الصحيح, بمعنى أن التحفظ منصب على النهج الفرنسى.

وبغض النظر عن التفاصيل, وإذا كانت هذه العوامل تفسر أسباب غضب فرنسا حيال الصفقة, فالسؤال هو ما هى مبررات الجانب الآخر لإغضاب أحد أقوى شركائه؟

الإجابة تكمن فى الاستراتيجية الأمريكية الجديدة للأمن القومى والتى حددت مصدر التهديد والأخطار على مستوى العالم, فى عصر الأحادية القطبية والهدف الرئيسى يقينا هو الحفاظ على هذه المكانة وحمايتها من الأفول مثل غيرها من الإمبراطوريات التى شهدت صعودا ثم هبوطا على مر الأزمنة, وأحد المصادر الأساسية لهذا التهديد فى الوقت الراهن هو الصين الذى قد يفوق الخطر الروسى من وجهة النظر هذه, ولا شك أن إدارة الرئيس الحالى جو بايدن, تعمل بشكل حثيث على مواجهتها, وتحشد كل طاقتها لتوحيد الصفوف الداخلية المنقسمة بين الجمهوريين والديمقراطيين, للموافقة عليها وإعطائها أولوية قصوى ويبدو أنها نجحت فى هذا المسعى, فليست هناك خلافات جوهرية حول ضرورة التصدى لبكين, والشىء نفسه تقوم به على مستوى الخارج وإن كان أكثر صعوبة, لأن توجهات الدول ومصالحها تتباين بالطبيعة والوصول لدرجة الإجماع يستحيل أحيانا مهما تبلغ درجة التحالف والشراكة.

سياسات بايدن هى استكمال لما اعتمدته إدارة باراك أوباما حين أصرت على التوجه نحو شرق آسيا لحصار الصين التى اتهمتها بعد عقود من التعاون, بخرق القوانين والأعراف الدولية والرغبة فى التوسع فى مناطق النفوذ الأمريكية فى باكستان والقرن الإفريقى وغرب آسيا وغيرها من المناطق, وكان ذلك على حساب الاهتمام بمناطق أخرى من العالم بما فيها الشرق الأوسط, وهو ما يتسق مع سحب القوات الأمريكية أخيرا من الأراضى الأفغانية رغم ما أسفرت عنه من رجوع سريع لحركة طالبان إلى سدة الحكم واستيلائها مجددا على السلطة بعد عشرين عاما من الاحتلال الأمريكى الذى أسقطها فى 2001.

كل ذلك يشير إلى أن الصراع الأمريكى -الصينى فى تصاعد مستمر على الأصعدة كافة, التجارية والاقتصادية والجيوسياسية والعسكرية, وليست الاتفاقية التى وقعتها مؤخرا بكين مع طهران, العدو التقليدى لواشنطن, والتى من المفترض أن تسرى لمدة 25 عاما شاملة العديد من مناحى التعاون بما فيها التصنيع العسكرى, سوى نموذج على السباق المحموم على النفوذ بين طرفى الصراع.

وبالتالى لم يكن انتزاع صفقة الغواصات من فرنسا, تنافسا أمريكيا على صفقة سلاح, ولكن تعداه بمراحل لاعتبارات استراتيجية أكبر, وهو ما أكده الحلف الثلاثى أيا كانت مبرراته، سواء كان دفاعيا لحماية أستراليا ومعها كوريا الجنوبية واليابان أو هجوميا, المهم أنه موجه ضد الصين لوقف تمددها ,وإحكام الحصار حولها, إما لدفعها للحوار والوصول إلى حلول مرضية معها أو لإجبارها على الدخول فى سباق للتسلح واستنزاف لقدراتها, وتكون فيه هى الطرف الخاسر.

أما فيما يتعلق بفرنسا فإن الولايات المتحدة تدرك أن الأمر مهما تبلغ تداعياته فسيتم تداركه فى النهاية مثلما أثبتت الخبرات السابقة.


لمزيد من مقالات د. هالة مصطفى

رابط دائم: